قرأت هذه القصة من كتاب نصف الهدف للاستاذ سيفي سيفي وأردت ان تشاركوني قرائتها:
لم أدرك حاجة البشر والإنسانية الى لغة عالمية واحدة يتفاهمون بها ويتبادلون الآراء والأفكار وتلبية حاجاتهم ومستلزماتهم من خلالها، إلا بعد أن وقع لي ما وقع في تلك الدولة الأجنبية. فكثيراً ما صدمت خلال قضائي وعائلتي إجازتنا الصيفية في الخارج بحاجز اللغة وصعوباتها. كنّا لا نعرف ماذا نطلب من طعام اذا دخلنا مطعماً، ولا طريقة التعامل مع الباعة اذا أردنا شراء حاجة، ولا أين نذهب او نتوجه اذا خرجنا للنزهة. لذلك قررنا في النهاية تقليد الصم والبكم في تخاطبنا مع الناس بدلا من ترديد أبسط مفردات كلمات لغتنا دون ان يفهمها الناس. كان قراراً يبعث على الخجل والاستيحاء. فرغم روعة وفصاحة وسعة لغتنا الجميلة، الا إننا اضطررنا للاستعاضة عنها بالإشارات الصامتة مثل المعاقين وذوي العاهات. ولا أدري لماذا لم تنتبه شعوب العالم ومفكريها وقادتها لحاجتهم الى لغة عالمية واحدة مشتركة تضاف الى جانب لغاتهم القومية لتسهيل التعامل بينهم ولإسراع عجلة الترقي بين الشعوب من خلال تبادل المعلومات والأفكار.
انتبه موظف الفندق لما نحن فيه من حيرة في أمرنا وجهلنا بمعالم المدينة من خلال كثرة جلوسنا المتواصل أمامه في صالة الفندق مع هذه المجموعة من الأطفال، وأدرك من خلال خبرته حاجتنا للمعونة والإرشاد. فتقدم منا لينصحنا بزيارة مكان جميل قريب لا يحتاج الوصول اليه الى كثرة عناء أو مشقة، ومدح هواء المكان وماءه وأشجاره وخضرته. وتسهيلاً لذهابناً، أشار علينا بأخذ حافلة عامة لرخص أجرتها ولمرورها بمناطق خلابة الجمال. فما كان مني الا ان أسرعت بتدوين رقم الحافلة ومكان انطلاقها.
خرجت وعائلتي ونحن نمسك بأيدي بعضنا البعض متجهين الى موقف الحافلة. ففرح الأولاد بكبر حجمها وسعتها وراحوا يتراكضون ويتقافزون بين مقاعدها الخالية. وما هي إلا بضع دقائق حتى امتلأت بركاب من جنسيات مختلفة، فناديت على أولادي أجمعهم حولي مخافة فقدان أحدهم. وصدق رجل الفندق، فقد خلبت لبّنا مناظر الطريق الجميلة وملأ صدورنا هواءها العليل.
لم تغفل عيون زوجتي وعيوني عن مراقبة أولادنا داخل الحافلة، خاصة خلال توقفها عند المحطات لالتقاط راكب او إنزال آخر، فقد كنا نخشى تسلل أحدهم الى خارجها ونحن في غفلة عنه، فيقع ما لا يحمد عقباه.
عندما علمت ان المحطة التالية هي غايتنا، خفّ قلقي وهدأت حدة مراقبتي لأولادي، ولم أهتم لما حصل من هرج ومرج بين الركاب ساعة النزول، لأني أعلم ان الحافلة ستخلو من الجميع ولن يتبق فيها أحد.
بعد ترجلنا، وقفت على حافة الطريق بين أفراد أسرتي أعيد تنظيم صفوفهم وحساب عددهم. فاكتشفت فقدان ولدي الكبير! تلفت حولي فلم أجده! اعتقدت انه ما زال داخل الحافلة ولم يترجل بعد، فعدت لأبحث عنه، واذا بالحافلة تغلق بابها وتنطلق!
يا الهي.. أليست هذه هي آخر نقاط سيرها؟!
حدّقت بداخلها، فوجدتها ما زالت تحتفظ ببعض الركاب! فأدركت ان الطريق لم ينته بعد! ترى الى أين ستأخذ ولدي؟ ومتى سينتبه السائق لوجوده؟
حاولت بالصياح تنبيه من يستقلونها.. لكن صوت محركها طغى على صوتي.. ركضت خلفها، فخذلتني صحتي.. تلفّت حولي أبحث عمن يملك سيارة لمساعدتي في اللحاق بها، فوجدت رجلاً محترماً يقف بجوار سيارته، ركضت نحوه أحاول التفاهم معه طالباً مساعدته، إلا أنني فوجئت بحاجز اللغة اللعين يحول بيني وبينه مما زاد في حيرتي وارتباكي. ولأول مرة شاهدت عجز لساني ومنطقي وفصاحتي. حاولت بالإشارة والتلميح شرح بغيتي، فكان رد الرجل أن رفع كتفيه وفرد يديه ومط شفتيه. أدركت ان لا طائل من المحاولة معه، فالوقت من ذهب.
ساعتها.. تمنيت من كل قلبي لو تكلم الناس جميعاً بلغة واحدة، فعندها ستحل كثيراً من مشاكل الناس وأولها مشكلتي.
احترت في بليتي، وما أنا فيه! ماذا أفعل؟ هل أقف في مكاني أنتظر عودة الحافلة من نفس الطريق؟ وماذا لو أنها عادت من طريق آخر؟ ترى هل سينتبه الركاب لوجود ولدي؟ وماذا سيفعل لو علم بموقفه؟ من سيفهم كلامه؟ كيف سيفسر مشكلته؟ من سيهدئ روعه ويخفف عنه رعبه؟ يا لها من مصيبة؟!
التفتُّ الى الوراء، فرأيت زوجتي والدموع تملأ مقلتيها تحاول بحركات عصبية لملمة بقية أولادها، حاولت تجنب نظراتها، لكنها سارعتني بكلمة مزقت لبّ فؤادي:
أريد ولدي..
أدركت من حزم نبرتها وتجهم وجهها، انها لن توافق على أي عذر ولن تفهم أي تفسير ولن توافق على نقاش هذه المصيبة بأي شكل من الأشكال. انها تريد ولدها، وستحملني كامل المسؤولية باعتباري مدبر الرحلة ومنظمها ومديرها.
عدت أفكر في ضياع ولدي وابتعاد الحافلة. فخطرت لي فكرة أخرى.. ترى، هل ترجَّل منها في غفلة عنّا ونزل قبلنا؟ فان كان كذلك، فأين هو؟
وقفت وكأني أخاف الحركة، لا أعرف ماذا أفعل.
ترى هل فقدت ولدي وبكري في هذا البلد الغريب؟
أين سأبحث عنه؟ ومن سأسأل؟
هنا شعرت بانقلاب هواء المكان وتبدل نسيمه العليل الى سموم تلهب صفحة وجهي، وانقلب جماله ولطف هواءه الى سواد وظلام ورعب مخيف، وأمست روعة القدود وجمال الوجوه أمامي، ملامح مشوشة وأشباح ضبابية. حاولت التحكم بزمام أعصابي وعدم إظهار ما في قلبي من خوف ورعب أمام زوجتي كي لا أزيد سوء حالها. لكنها كانت تكرر بوتيرة مملة ميكانيكية:
أريد ولدي.. أريد ولدي..
كانت جموع مطارق الأفكار السوداء تتسابق لتطرق سندان عقلي وتلفني في صخب وضوضاء لا حدود له، وشعرت بأمواج مياه الحيرة تتقاذفني وتغرقني في بحارها، فأعلو وأهبط فوق سطحها.
وبينما أنا في هذه الحالة، أجمع أخماس وأسداس ثم أضربها وأقسمها، اذا بصوت رقيق تعودت سماعه يأتي من خلف الأشجار على حافة الطريق..
بابا.. بابا.. لماذا تقفون هناك؟
تعالوا.. ان المكان جميل هنا..
انتبه موظف الفندق لما نحن فيه من حيرة في أمرنا وجهلنا بمعالم المدينة من خلال كثرة جلوسنا المتواصل أمامه في صالة الفندق مع هذه المجموعة من الأطفال، وأدرك من خلال خبرته حاجتنا للمعونة والإرشاد. فتقدم منا لينصحنا بزيارة مكان جميل قريب لا يحتاج الوصول اليه الى كثرة عناء أو مشقة، ومدح هواء المكان وماءه وأشجاره وخضرته. وتسهيلاً لذهابناً، أشار علينا بأخذ حافلة عامة لرخص أجرتها ولمرورها بمناطق خلابة الجمال. فما كان مني الا ان أسرعت بتدوين رقم الحافلة ومكان انطلاقها.
خرجت وعائلتي ونحن نمسك بأيدي بعضنا البعض متجهين الى موقف الحافلة. ففرح الأولاد بكبر حجمها وسعتها وراحوا يتراكضون ويتقافزون بين مقاعدها الخالية. وما هي إلا بضع دقائق حتى امتلأت بركاب من جنسيات مختلفة، فناديت على أولادي أجمعهم حولي مخافة فقدان أحدهم. وصدق رجل الفندق، فقد خلبت لبّنا مناظر الطريق الجميلة وملأ صدورنا هواءها العليل.
لم تغفل عيون زوجتي وعيوني عن مراقبة أولادنا داخل الحافلة، خاصة خلال توقفها عند المحطات لالتقاط راكب او إنزال آخر، فقد كنا نخشى تسلل أحدهم الى خارجها ونحن في غفلة عنه، فيقع ما لا يحمد عقباه.
عندما علمت ان المحطة التالية هي غايتنا، خفّ قلقي وهدأت حدة مراقبتي لأولادي، ولم أهتم لما حصل من هرج ومرج بين الركاب ساعة النزول، لأني أعلم ان الحافلة ستخلو من الجميع ولن يتبق فيها أحد.
بعد ترجلنا، وقفت على حافة الطريق بين أفراد أسرتي أعيد تنظيم صفوفهم وحساب عددهم. فاكتشفت فقدان ولدي الكبير! تلفت حولي فلم أجده! اعتقدت انه ما زال داخل الحافلة ولم يترجل بعد، فعدت لأبحث عنه، واذا بالحافلة تغلق بابها وتنطلق!
يا الهي.. أليست هذه هي آخر نقاط سيرها؟!
حدّقت بداخلها، فوجدتها ما زالت تحتفظ ببعض الركاب! فأدركت ان الطريق لم ينته بعد! ترى الى أين ستأخذ ولدي؟ ومتى سينتبه السائق لوجوده؟
حاولت بالصياح تنبيه من يستقلونها.. لكن صوت محركها طغى على صوتي.. ركضت خلفها، فخذلتني صحتي.. تلفّت حولي أبحث عمن يملك سيارة لمساعدتي في اللحاق بها، فوجدت رجلاً محترماً يقف بجوار سيارته، ركضت نحوه أحاول التفاهم معه طالباً مساعدته، إلا أنني فوجئت بحاجز اللغة اللعين يحول بيني وبينه مما زاد في حيرتي وارتباكي. ولأول مرة شاهدت عجز لساني ومنطقي وفصاحتي. حاولت بالإشارة والتلميح شرح بغيتي، فكان رد الرجل أن رفع كتفيه وفرد يديه ومط شفتيه. أدركت ان لا طائل من المحاولة معه، فالوقت من ذهب.
ساعتها.. تمنيت من كل قلبي لو تكلم الناس جميعاً بلغة واحدة، فعندها ستحل كثيراً من مشاكل الناس وأولها مشكلتي.
احترت في بليتي، وما أنا فيه! ماذا أفعل؟ هل أقف في مكاني أنتظر عودة الحافلة من نفس الطريق؟ وماذا لو أنها عادت من طريق آخر؟ ترى هل سينتبه الركاب لوجود ولدي؟ وماذا سيفعل لو علم بموقفه؟ من سيفهم كلامه؟ كيف سيفسر مشكلته؟ من سيهدئ روعه ويخفف عنه رعبه؟ يا لها من مصيبة؟!
التفتُّ الى الوراء، فرأيت زوجتي والدموع تملأ مقلتيها تحاول بحركات عصبية لملمة بقية أولادها، حاولت تجنب نظراتها، لكنها سارعتني بكلمة مزقت لبّ فؤادي:
أريد ولدي..
أدركت من حزم نبرتها وتجهم وجهها، انها لن توافق على أي عذر ولن تفهم أي تفسير ولن توافق على نقاش هذه المصيبة بأي شكل من الأشكال. انها تريد ولدها، وستحملني كامل المسؤولية باعتباري مدبر الرحلة ومنظمها ومديرها.
عدت أفكر في ضياع ولدي وابتعاد الحافلة. فخطرت لي فكرة أخرى.. ترى، هل ترجَّل منها في غفلة عنّا ونزل قبلنا؟ فان كان كذلك، فأين هو؟
وقفت وكأني أخاف الحركة، لا أعرف ماذا أفعل.
ترى هل فقدت ولدي وبكري في هذا البلد الغريب؟
أين سأبحث عنه؟ ومن سأسأل؟
هنا شعرت بانقلاب هواء المكان وتبدل نسيمه العليل الى سموم تلهب صفحة وجهي، وانقلب جماله ولطف هواءه الى سواد وظلام ورعب مخيف، وأمست روعة القدود وجمال الوجوه أمامي، ملامح مشوشة وأشباح ضبابية. حاولت التحكم بزمام أعصابي وعدم إظهار ما في قلبي من خوف ورعب أمام زوجتي كي لا أزيد سوء حالها. لكنها كانت تكرر بوتيرة مملة ميكانيكية:
أريد ولدي.. أريد ولدي..
كانت جموع مطارق الأفكار السوداء تتسابق لتطرق سندان عقلي وتلفني في صخب وضوضاء لا حدود له، وشعرت بأمواج مياه الحيرة تتقاذفني وتغرقني في بحارها، فأعلو وأهبط فوق سطحها.
وبينما أنا في هذه الحالة، أجمع أخماس وأسداس ثم أضربها وأقسمها، اذا بصوت رقيق تعودت سماعه يأتي من خلف الأشجار على حافة الطريق..
بابا.. بابا.. لماذا تقفون هناك؟
تعالوا.. ان المكان جميل هنا..