منتديات عظمة هذا اليوم
عزيزي الزائر الكريم يسعدنا انضمامك للصفوة في منتديات عظمة هذا اليوم
ارجو الضغط على زر تسجيل ومليء البيانات
في حالة مواجهتك لاي مشكلة ارجو الاتصال فورا بالادارة على الايميل التالي
the_great_day@live.se

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتديات عظمة هذا اليوم
عزيزي الزائر الكريم يسعدنا انضمامك للصفوة في منتديات عظمة هذا اليوم
ارجو الضغط على زر تسجيل ومليء البيانات
في حالة مواجهتك لاي مشكلة ارجو الاتصال فورا بالادارة على الايميل التالي
the_great_day@live.se
منتديات عظمة هذا اليوم
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

يا إلهي أغث هؤلاء البؤساء، ويا موجدي ارحم هؤلاء الأطفال، ويا إلهي الرّؤوف اقطع هذا السّيل الشّديد، ويا خالق العالم أخمد هذه النّار المشتعلة، ويا مغيثنا أغث صراخ هؤلاء الأيتام، ويا أيّها الحاكم الحقيقيّ سلّ الأمّهات جريحات الأكباد،ع ع

بحـث
 
 

نتائج البحث
 


Rechercher بحث متقدم

اضف ايميلك ليصلك كل جديد Enter your email address

اضف ايميلك ليصلك كل جديد Enter your email address:

Delivered by FeedBurner


المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 31 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 31 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحث

لا أحد

أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 138 بتاريخ 2019-07-30, 07:24
إعلانات تجارية

    لا يوجد حالياً أي إعلان


    [/spoiler]

    أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم, أنت لم تقم بتسجيل الدخول بعد! يشرفنا أن تقوم بالدخول أو التسجيل إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى

    الرسالة المدنية لحضرة عبد البهاء 2

    اذهب الى الأسفل  رسالة [صفحة 1 من اصل 1]

    عاطف الفرماوى


    عضو ذهبي
    عضو ذهبي
    لقد ثبت من هذه التّفاصيل المشروحة الآنفة الذّكر أنّ شرف الإنسان ونبله ليسا في سفك الدّماء والافتراس وتدمير المدن والممالك الأجنبيّة، وتتبير وإبادة الجيوش والأهالي، بل إنّ سبب سعد الإنسان ويمن طالعه هو الاشتهار بمراعاة العدل، وتفقّد حال جميع الرّعايا من أعلاهم إلى أدناهم، وتعمير الممالك والمدن والقرى ومضافاتها وترفيه عباد الله وترويحهم، ووضع أساس قواعد رقيّ الجمهور وازدهار أحوالهم، وازدياد الثّروة العامّة وغناها.

    انظروا في العالم كم من ملوك فاتحين استووا على عرش الاستيلاء في البلدان ومن بينهم هولاكو خان والأمير تيمور ﮔﻭركان اللّذان وضعا اليد على قارّة آسيا العظمى، والإسكندر الرّوميّ (المقدونيّ) ونابليون الأوّل اللّذان تطاولت يد استيلائهما على ثلاث قارات من قارات العالم الخمس، ماذا كانت ثمرة هذه الفتوحات الجسيمة؟هل ازدهرت مملكة وهل تحقّقت سعادة مشهودة؟ هل استقرّت بسببها سلطنة، أم أصبحت باعثة لانقراض الحكم عن تلك الأسرة؟ فلم تظهر ثمرة ما من الفتوحات الّتي قام بها هولاكو بن ﭼﻨﮔيز المغوار إلاّ أن صارت قارّة آسيا كتل الرّماد من نيران الحروب الطّاحنة. ولم يفز تيمور من تسلّطه على البلاد بشيء سوى تشتيت شمل العالم وتخريب بنيان بني آدم. أمّا الإسكندر الرّوميّ فلم يفد من فتوحاته العظيمة سوى سقوط ابنه عن سرير الملك وتغلّب فلسقوس وبطليموس على كلّ ممالكه. وأمّا نابليون الأوّل فلم يجْنِ من ظفره بملوك أوروبّا إلاّ تخريب الممالك المعمورة، وتدمير النّفوس عامّة وهيمنة التّزلزل والاضطراب الشّديد على قارّة أوروبّا، ثم وقوعه هو نفسه أسيرًا في أواخر أيّامه.

    تلك هي آثار الملوك الفاتحين، ولكن تأمّلوا قليلاً في فضائل الملك العادل انوشروان الباذل وفضائله وخصاله الحميدة وعظمته وجلال شأنه. فقد استقرّ هذا السّيد العادل على سرير الملك في زمان اختلّ فيه بنيان سلطنة إيران القويّ الأركان وطرأ عليه الوهن من كلّ جانب، فأسّس بموهبة العقل أساس العدل والإنصاف، وقلع بنيان الظّلم والاعتساف، وجمع

    أهل إيران المضطربين تحت ظلّ جناح سلطنته، وفي مدّة قليلة انتعشت بلاد إيران الذّاوية الخربة بأثر عناياته المحيية للأرواح حتّى أضحت أعظم ممالك المعمورة المسكونة شأنًا، واستعادت الحكومة قواها وزادتها من بعد اضمحلالها، وطبّق صيت عدله وإنصافه آفاق الأقاليم السّبعة، وارتقى الأهلون من حضيض الذّلّة والمسكنة إلى أوج العزّة والسّعادة. وبالرّغم من أنّه كان من ملّة المجوس إلاّ أنّ صدر الخليقة وشمس سماء النّبوة الحقيقيّة قال في حقّه: «إنّي ولدت في زمن ملك عادل» وأبدى السّرور لولادته في عهده، فهل فاز هذا الملك العظيم بهذا المقام السّامي الرّفيع بالسّيرة المرضيّة أم بالفتوح وسفك الدّماء؟ تأمّلوا كيف نال هذا الشّأن فافتخر في قطب الكون وتباهى به حيث عمّ صيت عظمته وخلّد في العالم الفاني، وفاز بالحياة الأبديّة ولو أنّنا أخذنا في بيان سيرة العظماء الخالدة لطال بنا هذا الكتاب المختصر، ولمّا لم يكن واضحًا وجليًّا أن يتمّ تأثير الفوائد الكلّيّة في أفكار أهل إيران العامّة من قراءتهم لهذا الكتاب، فإنّنا نختصر القول ونقتصر على ذكر بعض المسائل القريبة إلى عقول النّاس، ولكن إذا أدّى هذا الكتاب المختصر إلى النّتائج الحسنة فإنّي، إن شاء الله، سوف أحرّر بعدئذ بعض الكتب المفيدة مفصّلاً القول فيها في أساس الحكم الإلهيّة في العوالم الملكيّة.

    إذًا فسطوة جنود العدل القاهرة في عالم الوجود لا تعادلها أعظم قوى العالم، ولا تقاومها أبنية الحصون الحصينة المرصوصة، ذلك لان كلّ البرايا تستسلم لفتوحات هذا السّيف القاطع طوعًا ورضاءً، وتنال خرائب العالم بهجوم هذا الجند العمران والحضارة في أعلى درجاتهما. وهناك رايتان عظيمتان إذا ورفت ظلالهما على تاج كلّ ملك كانتا لحكومته بمثابة النّيّر الأعظم ونفذت أنوار حكومته السّاطعة في أركان العالم بسهولة تامّة، أمّا الرّاية الأولى فهي العقل، وأمّا الثّانية فهي العدل. فلا يمكن لأيّة قوّة أن تقاوم هاتين القوّتين العظيمتين حتّى لو كانت جبلاً من الحديد أو سدّ الإسكندر. ومن الواضح البديهيّ أنّ حياة هذا العالم الفاني عابرة لا ثبات لها كنسائم الصّبح، فإذا كان الأمر كذلك فطوبى لعظيم خلَّد

    ذكره بصيت ممدوح وذكر طيّب في سبيل رضاء الباري.

    والنّفس إن همَّت إلى نحو المسير ففيه سيّانٌ تراب وسرير

    نعم إنّ الفتوح والاستيلاء على البلاد ممدوح بل ربما كانت الحرب في بعض الأحيان هي بنيان الصّلح الأعظم والتّدمير سبب التّعمير، فمثلاً لو حشد ملك عظيم جنده ضد باغ طاغ أو إذا أطلق عنان همّته في ميدان الجلادة والشّجاعة ابتغاء جمع شمل الأمّة والبلاد المشتّتة، وبالتّالي كانت حربه مبنيّة على النّيّات الصّالحة كان ظفره هذا هو اللّطف بعينه، وكان ظلمه هذا هو العدل بجوهره، وكانت هذه الحرب هي بنيان الصّلح والوئام. وما أجدر بالملوك القادرين اليوم تأسيس السّلم العام لأنّ في ذلك حقًّا حريّة للعالمين.

    أمّا الكلمة الرّابعة في تلك الرّواية الباهرة الهداية فكانت «مطيعًا لأمر مولاه». من المعلوم والواضح أنّ أعظم مناقب العالم الإنسانيّ إطاعة الله، فما شرفه وعزّته إلاّ في اتّباع أوامر الله الأحد والانتهاء عن نواهيه، وما نورانيّة الوجود إلاّ في التّديّن، وما رقيّ الخلق وفوزهم وسعادتهم إلاّ في اتّباع أحكام الكتب الإلهيّة المقدّسة. فلو تأمّلتم لتبيّن أنّه ليس في عالم الوجود -ظاهرًا كان أم باطنًا- أساس أعظم متانة ورصانة وبنيان قويم أكثر رزانة من الدّيانة الّتي هي محيطة بالوجود، وكافلة للكمالات المعنويّة الإلهيّة والصّوريّة، وضابطة لسعادة الحياة البشريّة ومدنيّتها بصورة عامّة. ولئن كان بعض البلهاء الّذين لم يتدبّروا أساس الأديان الإلهيّة ولم يتعمّقوا فيها، واتّخذوا من مسلك بعض دعاة التّديّن الكذبة ميزانًا يزنون به كلّ المتديّنين، لذا ظنّوا أنّ الأديان عائق يحول دون رقيّ النّاس بل عدّوها سبب النّزاع والجدال وعلّة البغض والعداوة التّامة بين أقوام البشر. فإنّهم لم يلاحظوا أنّ أساس الأديان الإلهيّة لا يمكن إدراكه من أعمال دعاة التّديّن، ذلك لأنّ كلّ خير ممّا لا يمكن تصوّر وجود مثله في الوجود عرضة للاستغلال، مثله كمثل السّراج النّورانيّ، وإن وقع في أيدي جهلاء الصّبيان أو العميان، فإنّه لا ينير لهم المنزل ولا يزيل الظّلمة المستولية عليهم، بل يحرقهم ومنزلهم جميعًا. فهل يمكن إذًا أن يقال إنّ السّراج مذموم؟ لا والله! بل إنّ السّراج هادي السّبيل، وواهب النّور لكلّ بصير، غير أنّه للأعمى آفة عظيمة.

    كان من بين من أنكروا الدّين رجل من أهل فرنسا يدعى فولتير، ألّف في ردّ الأديان كتبًا عديدة لا تستحقّ محتوياتها إلاّ أن تكون ملعبة الصّبيان البلهاء. فهذا الرّجل اتّخذ من مسلك البابا رئيس المذهب الكاثوليكيّ وتصرّفاته ومن فِتَن رؤساء ملّة المسيح الرّوحيّين وفسادهم ميزانًا له، ثم بسط قوله معترضًا على روح الله ولم يلتفت بعقله السّقيم إلى المعاني الحقيقيّة للكتب الإلهيّة المقدّسة، فأورد الشّبهات على بعض محتويات الكتب السّماويّة المنزلة. «وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظّالمين إلاَّ خسارًا».

    «يضلّ به كثيرًا ويهدي به كثيرًا وما يضلّ به إلاّ الفاسقين» . ومن المعلوم الواضح أنّ المحبّة والألفة والاتّحاد التّامّ بين أفراد نوع الإنسان أعظم وسائط فوز العباد وفلاحهم، وأكبر وسائل تمدّن من في البلاد ونجاحهم. ولا يمكن لأحد أن يتصوّر حدوث أمر من الأمور في العالم أو تيسّره من غير الاتّحاد والاتّفاق، والدّين الإلهيّ الحقيقيّ هو أكمل وسيلة من وسائل الألفة والاتّحاد في العالم. «لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألّفت بين قلوبهم، ولكن الله ألّف بينهم.»

    فترى في بعثة أنبياء الله أن قوّة الاتّحاد الحقيقيّ الباطنيّ والظّاهريّ جمعت كلّ القبائل المتضادّة والطّوائف المتقاتلة في ظلّ الكلمة الواحدة، بحيث أصبحت مئات ألوف الأرواح في حكم روح واحدة، وآلاف الأنفس في صورة فرد واحد.

    ولم تذكر تفاصيل ما حدث في أيّام بعثة أنبياء السّلف عليهم السّلام، ولم تفصّل أحوالهم وآثارهم كما هو حقّه في كتب التّاريخ المهمّة، غير أنّها وردت بالإجمال في آيات القرآن والحديث والتّوراة. ولكن لمّا كانت جميع الأمور منذ أيّام موسى إلى اليوم مندرجة في القرآن العظيم والأحاديث الصّحيحة والتّوراة والتّواريخ المهمّة،

    لذا اختصر القول فيها حتّى يتّضح لجميع النّاس بالبراهين المتقنة، هل الدّين هو الأساس الجوهريّ للإنسانيّة والمدنيّة في العالم أم أنّه مخرب لبنيان رقيّ الجامعة البشريّة وراحتها واطمئنانها كما زعم فولتير وأمثاله؟ ولئلاّ يبقى مجال إنكار لدى أيّ طائفة من طوائف العالم، لذا أبني القول بحيث يطابق التّواريخ الصّحيحة لدين جميع الملل ويكون مقبولاً لدى كلّ أهل العالم.

    حينما ازداد عدد بني إسرائيل في بلاد مصر نتيجة التّوالد والتّناسل، وانتشروا في جميع تلك البلاد، قام ملوك فراعنة مصر الأقباط يعزّزون جانب قومهم، ويمدّونهم بالقوّة ويحقّرون ويذلّون الأسباط الّذين كانوا يعدّونهم غرباء. وظلّ بنو إسرائيل مشتّتين متفرّقين مدّة طويلة تحت أيدي الأقباط الظّالمين وجورهم، وظلّوا سفلة محتقرين في أعين النّاس جميعًا، حتّى كان أحقر قبطيّ يؤذي أعزّ سبطيّ ويجافيه، وظلّ الأمر كذلك حتّى بلغ الذّل والظّلم غايتهما. ولم يكن بنو إسرائيل يأمنون على أرواحهم ليلاً أو نهارًا ولم يكن لأطفالهم أو لعيالهم من ملجأ أو ملاذ من ظلم فرعون وعمّاله، وكأنهم يطعمون دماء قلوبهم المفتّتة ويشربون عبراتهم الجارية كالأنهار وذلك من فرط المصائب والآلام. وظلّ بنو إسرائيل يعيشون في تلك الحال الأليمة حتّى شاهد الجمال الموسويّ بغتة أشعّة نار الأحديّة من شطر الوادي الأيمن بالبقعة المباركة، واستمع إلى النّداء الإلهيّ المحيي للأرواح من النّار الرّبانيّة الموقدة في شجرة «لا شرقيّة ولا غربيّة»، وبعثه الله بالنّبوّة الكلّيّة. ولمع نور هدايته كالسّراج في مجمع الأسباط، ودلّ بنور إرشاده التّائهين في ظلمات الجهل إلى سبيل العلم والكمال المستقيم، وجمع فرق أسباط إسرائيل المختلفين في ظلّ كلمة التّوحيد الواحدة الجامعة، فرفعوا علم الوحدة الكاملة على تلال الاتّفاق والاتّحاد، وفي مدّة قليلة تربّت هذه النّفوس الجاهلة بالتّربية الإلهيّة، وآمنوا بوحدانيّة الله من بعد ضلالهم، وتخلّصوا من الحقارة والذّلّة والمسكنة والأسر والجهالة، وفازوا بأقصى درجات العزّة والسّعادة. ثم رحلوا بعد ذلك من مصر وتوجهوا إلى موطن إسرائيل الأوّل، ووردوا أرض كنعان وفلسطين، وفتحوا سواحل نهر الأردن وأريحا أوّل الأمر، وسكنوا تلك البلاد، ثم سكنوا آخر الأمر جميع البلاد المجاورة من فينيقية وأدوم وعامون، وقصارى القول إنّ الممالك الّتي انبسط عليها سلطان

    بني إسرائيل بلغت في زمان يوشع إحدى وثلاثين مملكة، وتفوّقت هذه الطّائفة في جميع الشّؤون والصّفات والفضائل الإنسانيّة من علم ومعرفة وثبات وهمّة وجلد وشجاعة وعزّة وسخاء على كلّ قبائل العالم وشعوبه. فكان الإسرائيليّ في ذلك العصر إذا دخل مجمعًا امتاز بجميع الشّيم المرضيّة بحيث لو أرادت القبائل السّائرة أن تمدح نفسًا كانت تنسبه إلى بني إسرائيل.

    ولقد ورد في كتب التّواريخ المتعدّدة أنّ فلاسفة اليونان أمثال فيثاغورث اقتبسوا أكثر مسائل الحكمة الإلهيّة والطّبيعيّة من تلاميذ سليمان، والتقى سقراط في سياحته مع بعض علماء بني إسرائيل الرّبانيين الأجلاء، وعند عودته إلى اليونان أسّس الاعتقاد بالوحدانيّة الإلهيّة وخلود الأرواح الإنسانيّة من بعد خلعها للباس الأجسام العنصريّة. غير أنّ جهلاء اليونان اعترضوا على هذا الواقف على أسرار الحكمة، وتآمروا على قتله ودفع الأهلون بملك اليونان لذلك إلى أن جرّعوا سقراط كأس السّمّ في مجلسهم.

    وخلاصة القول إنّ بني إسرائيل أخذوا ينسون أسّ أساس الدّيانة الموسويّة وشريعتها قليلاً قليلاً بعد أن ارتقوا في جميع نواحي التّمدّن، وفازوا بأقصى درجة السّعادة، فالتهوا بالعادات والرّسوم والأحوال غير المرضيّة. ووقع بين بني إسرائيل في زمن رحبعام بن سليمان اختلاف عظيم، فطغى على الحكم ياربعام الّذي كان من أفراد الشّعب الإسرائيليّ، وأسّس عبادة الأصنام، ووقعت الحروب بين رحبعام وياربعام وسلالتهما قرونًا عدّة وتفرّقت قبائل اليهود واختلفت. وبالاختصار إنّهم لمّا نسوا معنى شريعة الله واتّسموا بالتّعصّب الجاهليّ واتّصفوا بصفات غير مرضيّة كالبغي والطّغيان، وغضّ علماؤهم الطّرف عن مستلزمات الإنسانيّة الحقيقيّة الواردة في الكتاب المقدّس، وانهمكوا في الاشتغال بمنافعهم الذّاتيّة، وابتلوا الأمة بأقصى غايات الغفلة والجهالة، تبدّلت تلك العزّة الباقية بأسفل دركات الذّلّة، وتسلّط عليهم ملوك الفرس واليونان والرّومان. ونكست راية استقلالهم، وأدّت جهالة رؤسائهم وغفلة أحبارهم ونكبتهما وأنانيّتهما إلى ظهور بختنصّر ملك بابل الّذي هدم بنيان بني إسرائيل هدمًا تامًّا، وكلّ ذلك كان نتيجة لأعمالهم. وبعد القتل العامّ والغارة وهدم البيوت وقلع الأشجار أسر

    من نجا من ضرب سيفه وحملهم إلى بابل، وبعد سبعين سنة أذن لأولاد الأسرى أن يرجعوا إلى بيت المقدس، وأعاد حزقيا وعزير عليهما السّلام تأسيس أساس الكتاب المقدّس من جديد، فأخذت ملّة بني إسرائيل تتقدّم يومًا فيومًا حتّى لاح صبح العصور الأولى من جديد. غير أنّ الخلاف عاد يدبّ في أحوالهم وأفكارهم بعد مدّة قليلة، واتّجهت همم علماء اليهود إلى أهوائهم النّفسيّة، وتبدّلت الأحوال من الإصلاحات الّتي جرت في أيّام عزير عليه السّلام إلى الفساد في المسلك والأخلاق، وبلغ بهم الأمر إلى أن غلب عليهم جند الملوك وجمهوريّة الرّومان مرارًا وتكرارًا والى أن دكّ طيطوس البطل -وكان زعيم الرّومان- وطن بني إسرائيل دكًّا، وقتل جميع الرّجال وأسر النّساء والأولاد وهدم البيوت وقطع الأشجار وحرق الكتب ونهب الأموال، وجعل بيت المقدس تلاًّ من الرّماد. وتوارى نجم حكومة بني إسرائيل بعد هذه المصيبة الكبرى في مغرب العدم، وظلّت هذه الملّة على هذا النّحو إلى اليوم متشتّتة الشّمل في أطراف العالم «وضربت عليهم الذّلّة والمسكنة» . وقد ذكرت هاتان المصيبتان العظيمتان، أي مصيبة بختنصّر وطيطوس في القرآن المجيد، حيث قال «وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرّتين ولتعلنّ علوًّا كبيرًا. فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأس شديد. فجاسوا خلال الدّيار وكان وعدًا مفعولاً» إلى أن قال «فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة وليتبرّوا ما عملوا تتبيرًا.»

    فالمقصود مما شرح آنفًا هو تبيان كيف أنّ الدّين الحقيقيّ يصبح سببًا لتمدّن الطّوائف الذّليلة الأسيرة الحقيرة الجاهلة وسعادتها وعلوّ منزلتها وزيادة معارفها وتقدّمها وعزّتها، وكيف أنّه عندما يقع بيد العلماء الجهلاء المتعصّبين تتحوّل هذه النّورانيّة العظمى إثر سوء الاستعمال إلى الظّلمة الدّهماء.

    فلما بانت مرّة أخرى علائم تشتّت طائفة بني إسرائيل وذلّتها وانعدامها وباتت مقهورة، فاحت نفحات روح الله الطّيبة القدسيّة على شواطئ نهر الأردنّ وإقليم الجليل، وارتفع غمام الرّحمة وهطلت على هذه الدّيار أمطار الرّوحانيّة الكبرى، وتعطّرت برّيّة القدس من رشحات البحر الأعظم

    وطفحاته برياحين معرفة الله، وارتفعت جوامع ألحان الإنجيل الجليل إلى مسامع أهل صوامع الملكوت، وقامت النّفوس الميتة من قبر الغفلة والجهالة بنفس المسيح، وفازوا بالحياة الأبديّة، ونهض ذلك النّيّر السّاطع من أوج الكمال ليتنقّل في صحاري فلسطين وبراري أورشليم مدّة ثلاث سنوات، ويهدي فيها النّاس جميعًا إلى صبح الهداية، ويربّيهم بالأخلاق الرّوحانيّة والصّفات المرضيّة، وإذا كان بنو إسرائيل قد أقبلوا على ذلك الجمال النّورانيّ وشدّوا إزار الخدمة في طاعته لنالوا روحًا جديدة، وفتح لهم فتحًا مبينًا. ولكن ما الجدوى وقد أعرضوا جميعًا وقاموا على إيذاء معدن العلم اللّدنّيّ ومهبط الوحي الإلهيّ إلاّ نفرًا قليلاً تقدّسوا عن شؤون العالم الظّلمانيّة وعرّجوا متوجّهين إلى الله من المكان الفاني إلى اللاّمكان الباقي.

    وخلاصة القول لقد ورد من البلايا الشّديدة على مشرق الألطاف الإلهيّة هذا ما جعل إقامته واستقراره في قرية من القرى أمرًا مستحيلاً. ورغم هذا ارتفع علم الهداية الكبرى، وتأسّس تمدّن الأخلاق الإنسانيّة الّذي هو أصل المدنيّة الجامعة، فهو ينصح في الأصحاح الخامس بالآية السّابعة والثّلاثين من إنجيل متّى حيث يقول: «وأمّا أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشّر بل من لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر أيضًا» وكذلك يقول في الآية الثّالثة والأربعين: «سمعتم أنّه قيل تحبّ قريبك وتبغض عدوّك، وأمّا أنا فأقول لكم أحبّوا أعداءكم باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم وصلّوا لأجل الّذين يسيئون إليكم ويطردونكم، كي تكونوا أبناء أبيكم الّذي في السّموات، فإنّه يشرق شمسه على الأشرار والصّالحين ويمطر على الأبرار والظّالمين، لأنّه إن أحببتم الّذين يحبّونكم فأيّ أجر لكم، أليس العشّارون أيضًا يفعلون ذلك؟»

    وتعاليم من هذا القبيل لمطلع الحكمة الإلهيّة هذا كثيرة، والواقع أنّ الّذين اتّصفوا بهذه الصّفات المقدّسة هم جواهر الوجود ومطالع التّمدّن الحقيقيّ. وخلاصة القول إنّه أسّس الشّريعة المقدّسة على الرّوحانيّة الصّرفة

    والأخلاق الحسنة، وجعل للمؤمنين منهجًا ومسلكًا خاصًا يعتبر جوهرًا لحياة العالم، وبالرّغم من أنّ أولئك المهتدين ابتلوا في الظّاهر بأشدّ نقمة النّاقمين وظلم الظّالمين، إلاّ أنّهم نجوا في الحقيقة من ظلمات خذلان اليهود ولاحوا وأشرقوا في صبح الوجود بأنوار العزّة السّرمديّة، واضمحلت تلك الأمة اليهوديّة الكبيرة وانعدمت. ولكن لمّا كانت هذه الأنفس المعدودات قد استظلّوا في ظلّ الشّجرة العيسويّة المباركة فقد بدّلوا هيئة العالم بصورة عامّة، وفي ذلك الوقت كان جميع أهل أقاليم العالم في منتهى درجة التّعصّب والغفلة وحميّة الجاهليّة والشّرك بالله، ولم يكن من أحد يؤمن بوحدانيّة الله إلاّ شرذمة قليلة من اليهود الّذينهم كانوا أيضًا مخذولين ومنكوبين، ولقد قامت هذه الأنفس المباركة بترويج أمر كان مختلفًا ومناقضًا لآراء جميع الهيئة البشريّة، وقام ملوك القارّات الأربع من بين القارّات العالم الخمس على اضمحلال ملّة عيسى بأتمّ عزم، ومع ذلك نهض الكثيرون بالرّوح والفؤاد إلى ترويج الدّين الإلهيّ آخر الأمر، واجتمعت أمم أوروبّا وكثير من طوائف آسيا وأفريقيا وبعض القاطنين في جزائر البحر المحيط في ظلّ كلمة التّوحيد.

    تأمّلوا الآن، أترون في الوجود كلّه أساسًا خلقاً أعظم من الدّيانة؟ وهل يتصوّر أمر محيط على العالم الوجود مثل الأديان الإلهيّة؟ أم هل هناك أمر يكون وسيلة المحبّة والألفة والاتّحاد والائتلاف التّامّ كالإيمان بالعزيز العلاّم؟ أم هل رأى أحد أساسًا لتربية النّاس في جميع مناهج الأخلاق غير الّذي جاء في الشّرائع السّماويّة؟ إنّ الصّفات الّتي كان الحكماء يتّصفون بها بعد فوزهم بمنتهى درجات الحكمة والخصال الّتي كانوا يبلغونها بعد وصولهم إلى أعلى درجات الكمال كان المؤمنون بالله ينالون تلكم الشّيم المرضيّة الإنسانيّة في بداية تصديقهم وإيمانهم.

    انظروا إلى الّذين ارتشفوا سلسبيل الهداية من يد ألطاف روح الله (المسيح) واستظلّوا بظلّ الإنجيل، أيّة درجة من الأخلاق بلغوا حتّى كتب جالينوس الحكيم المشهور في مدح المؤمنين بالله –رغم أنّه لم يكن من ملّة

    عيسى عليه السّلام– وذلك في شرحه لجوامع كتاب أفلاطون الّذي ألّفه في سياسة المدن، قال ما ترجمته نصًّا وحرفًا:

    «إنّ جمهور النّاس عاجزون عن إدراك سياق الأقوال البرهانيّة، فهم لهذا بحاجة إلى كلمات رمزيّة تشير إلى أخبار الثّواب والعقاب في دار الآخرة. والدّليل على صحّة هذا المطلب هو أنّنا اليوم نرى الّذين يسمّون بالنّصارى يعتقدون بثواب الآخرة وعقابها ويؤمنون بهما، وتصدر من هذه الطّائفة أفعال حسنة كالّتي تصدر من الفيلسوف الحقيقيّ، كما أنّنا جميعًا نراهم لا يخافون من الموت، وهم لكثرة حرصهم على العدل وشوقهم إلى الإنصاف يعدّون من الفلاسفة الحقيقيّين». وكان مقام الفيلسوف في ذلك الزّمان وفي عقيدة جالينوس مقامًا لا يمكن تصوّر مقام أعظم منه في الوجود. فانظروا كيف أنّ القوّة النّورانيّة الرّوحانيّة للأديان الإلهيّة تسمو بجمهور المتديّنين إلى درجات من الكمال تدفع حكيمًا مثل جالينوس إلى أن يشهد بهذه الشّهادة رغم أنّه لم يكن من أفراد تلك الأمّة. وكان من آثار هذه الأخلاق الحسنة أن تعلّق أهل الإنجيل في تلك الأزمنة والعصور بالخيرات والصّالحات وبنوا المستشفيات والمصحّات والمؤسّسات الخيريّة، كما أنّ أوّل شخص شيّد في ممالك الرّومان الأبنية العامّة لعلاج المساكين والجرحى الّذين لا عائل لهم كان الملك قسطنطين، وكان هذا الملك العظيم أوّل ملك من ملوك الرّومان قام لنصرة دين روح الله، وبذل في سبيل ترويج أساس الإنجيل الغالي والرّخيص، وحوّل الحكم الرّومانيّ الّذي كان قائمًا على الاعتساف المحض إلى مركز العدل والإنصاف، وصار اسمه المبارك بمثابة نجم السَّحَر الدّرّيّ ساطعًا من فجر كتب التّاريخ، وأصبح صيت عظمته في عالم المدنيّة والجاه ما تردّده ألسنة الفرق المسيحيّة جمعاء.

    وخلاصة القول ما أمتن ذلك الأساس الّذي وضع للأخلاق الحسنة ببركة وجود الأنفس المقدّسة الّتي قامت بترويج تعاليم الإنجيل في العالم في ذلك الزّمان، وكم من مكتب ومدرسة ومستشفى ومعهد ومكتبة تأسّس لتربية أولاد الأيتام والفقراء، وكم من أنفس تركوا منافعهم الذّاتيّة وقضوا

    أعمارهم في تعليم النّاس وتربيتهم ابتغاء مرضاة الله.

    ولكن عندما دنا طلوع صبح الجمال الأحمديّ النّورانيّ وقعت زمام جمهور المسيحيّين في أيدي قساوسة جهلة، فانقطعت تلك النّسائم الرّحمانيّة من مهبّ العناية انقطاعًا كلّيًّا وباتت أحكام الإنجيل الجليل الّتي كانت أساس مدنيّة العالم دون جدوى، وذلك من جرّاء سوء الاستعمال وتصرّف أولئك الّذين ازدان ظاهرهم وخبث باطنهم، حتّى أنّ جميع المؤرّخين الأوروبيّين المشهورين في بيان أحوال القرون القديمة والوسطى والجديدة وسياستها وتمدّنها ومعارفها وجميع شؤونها ذكروا أنّ ممالك أوروبّا كانت في غاية من التّوحش وفقدان المدنيّة أثناء القرون العشرة الوسطى الممتدّة من بدء القرن السّادس الميلاديّ إلى نهاية القرن الخامس عشر، وكان السّبب الأصليّ لذلك أنّ الرّهبان –أو الرّؤساء الدّينيّين الرّوحانيّين باصطلاح أهل أوروبّا– غفلوا عن العزّة الأبديّة الكامنة في اتّباع أوامر الإنجيل المقدّسة وتعاليمه السّماويّة، واتّفقوا مع أركان الحكومة الدّنيويّة الّذين كانوا في ذلك الزّمان على أكبر جانب من الظّلم والطّغيان، غضّوا الطّرف عن العزّة الباقية واهتمّوا بمنافعهم الآنيّة الفانية وأغراضهم النّفسيّة اهتمامًا كثيرًا، حتّى بلغ من الأمر أن أصبح الأهلون جميعًا أسرى في أيدي هذين الفريقين، وكانت هذه الأحوال سببًا لهدم أساس الدّين والمدنيّة والسّعادة لأهل أوروبّا.

    ولما زالت روائح نفحات روح الله الطّيبة الرّوحانيّة من آفاق العالم نتيجة لأعمال الرّؤساء وأفكارهم المنحطّة ونيّاتهم غير اللاّئقة، وأحاطت العالم ظلمة الجهل والغفلة والأخلاق غير المرضيّة انبثق فجر الأمل ووافى موسم الرّبيع الإلهي، وارتفع غمام الرّحمة وهبّت النّسائم المحيية للأرواح من مهّب العناية الإلهيّة، فأشرقت شمس الحقيقة السّاطعة في الوجود المحمّديّ من أفق الحجاز ويثرب، وأغدقت أنوار العزّة السّرمديّة على آفاق الموجودات، فتبدّلت أراضي الاستعدادات وتحقّق معنى «وأشرقت الأرض بنور ربّها» فأصبح العالم عالمًا جديدًا وفاز جسد الوجود الميّت بالحياة الخالدة،

    وانهدم بنيان الظّلم والجهل، وارتفع وتعالى إيوان العلم والعدل الرّفيع، وهاج بحر المدنيّة وتلألأت أنوار المعارف، وكانت أقوام الحجاز وطوائفه المتوحّشة قبل اشتعال سراج النّبوّة الكبرى الوهّاج في زجاجة البطحاء من أشدّ القبائل جهلاً والطّوائف توحّشًا، ولقد ذكرت سيرهم الذّميمة وعوائدهم الموحشة وحبّهم لسفك الدّماء والقتل ونزاعهم وعداء بعضهم لبعض في كلّ كتب التّاريخ وصحفه، حتّى أنّ طوائف العالم المتمدّنة في ذلك الزّمان لم تكن تعدّ أعراب يثرب والبطحاء من نوع البشر، ولكن بعد أن طلع كوكب الآفاق في تلك البلاد والدّيار استظلّ هذا الجمهور المتوحّش في ظلّ كلمة الوحدانيّة في مدّة قليلة، وبفضل تربية ذلك المعدن للكمال ومهبط وحي ذي الجلال وبفيض من الشّريعة المقدّسة الإلهيّة ارتقوا في جميع المراتب الإنسانيّة والكمالات البشريّة ارتقاء حيّر كلّ أمم العالم في ذلك العصر. فأسرعت إلى ممالك العرب طوائف العالم وقبائله وملله الّذين كانوا دائمًا يتّخذون الأعراب هزوًا وسخرية ويعتبرونهم جنسًا بلا فصل، وأقبلت يحدوها الشّوق لتحصيل الفضائل الإنسانيّة واقتباس العلوم السّياسيّة واكتساب المعارف والمدنيّة وتعلّم والفنون والصّنائع.

    فانظروا إلى آثار تربية المربّي الحقيقيّ في الأمور المحسوسة لدى قوم كانوا لشدّة توحّشهم وغفلتهم في جاهليتهم يئدون بناتهم إذا بلغن سنّ السّابعة، ويعدّون ذلك غاية الغيرة والحميّة لفرط جهالتهم، وهو أمر تنفر منه طبيعة الحيوان وتتبرّأ فضلاً عن الإنسان، انظروا كيف استطاع أمثال هؤلاء الجهلة بفضل تربية هذا المربّي العظيم أن يفتحوا ممالك مصر والسّريان والشّام والكلدان والعراق وإيران، ويديروا وحدهم جميع أمور أقاليم العالم الأربعة، وخلاصة القول إنّ العرب فاقوا كلّ الأمم والأقوام في جميع العلوم والفنون والمعارف والحكمة والسّياسة والأخلاق والصّنائع والمخترعات. والواقع أنّ بلوغ مثل هذه الطّائفة المتوحشة الحقيرة إلى أقصى درجات الكمال البشريّ في مدّة يسيرة لأعظم برهان على صحّة نبوّة سيّد الكائنات. وكانت جميع طوائف أوروبّا تكتسب الفضائل ومبادئ المدنيّة

    من المسلمين القاطنين في ممالك الأندلس في عصور الإسلام الأولى، ولو أمعن النّظر في الكتب التّاريخيّة لاتّضح أنّ اكبر جانب من تمدّن أوروبّا مقتبس من الإسلام، حيث قام علماؤها بجمع كافة كتب حكماء المسلمين وعلمائهم وفضلائهم شيئًا فشيئًا، وأخذوا يطالعونها في المعاهد والجامعات العلميّة ويناقشونها بكمال الدّقّة مطبّقين ما كان مفيدًا منها. وإنّنا نرى أنّ نسخًا من كتب علماء المسلمين المفقودة الآن من الممالك الإسلاميّة موجودة في مكتبات أوروبّا، وأنّ أكثر القوانين السّارية والأصول المعمول بها في كلّ ممالك أوروبّا وربّما جميع مسائلها فمقتبسة من الكتب الفقهيّة الإسلاميّة وفتاوي علمائها ولولا الخوف من الإطالة لحرّرت المسائل المقتبسة مسألة مسألة.

    ولقد بدأ تمدّن أوروبّا في القرن السّابع الهجريّ، وتفصيل ذلك أنّه في أواخر القرن الخامس الهجريّ أخذ البابا رئيس الملّة المسيحيّة يصرخ ويشكو من استيلاء المسلمين على مقامات النّصارى المقدّسة كبيت المقدس وبيت لحم والنّاصرة، وارتأى أن يحرضّ جمهور ملوك أوروبّا وأهلها ويحثّهم على الجهاد والحرب الدّينيّة، وبلغ حنينه وأنينه وصريخه مبلغًا قامت له كلّ ممالك أوروبّا، وعَبَر الملوك الصّليبيون في جحافلهم الجرّارة من خليج القسطنطينيّة وتوجّهوا إلى قارّة آسيا. وكان الخلفاء العلويّون يحكمون مصر وبعض بلاد المغرب آنذاك، وكان السّلاجقة الحاكمون في برّيّة الشّام منقادين في أكثر الأوقات لحكمهم. ومجمل القول فإنّ ملوك أوروبّا هاجموا برّيّة الشّام ومصر بجموع لا عدّ لها ولا حصر، واستمرّت الحرب بين ملوكها وملوك أوروبّا ثلاث سنوات ومائتي سنة، وكان المدد يأتي من أوروبّا دائمًا، وكان ملوك الفرنجة يستولون على كلّ قلعة من قلاع سوريّا مرارًا وتكرارًا ثم يستردّها ملوك المسلمين من أيديهم. وظلّ الأمر كذلك حتّى طرد الملك النّاصر صلاح الدّين الأيوبيّ في سنة ستّمائة وثلاث وتسعين للهجرة ملوك أوروبّا وجنودها من ممالك برّيّة الشّام وسواحل مصر، فعادوا إلى أوروبّا يائسين منكوبين، ولقد هلك مئات الألوف من النّاس في هذه الحروب المعروفة بالحروب الصّليبيّة.

    وخلاصة القول إنّه منذ سنة تسعين وأربعمائة للهجرة حتّى سنة ثلاث وتسعين وستّمائة للهجرة كان ملوك أوروبّا وقوّادها ووجهاؤها يتردّدون بلا انقطاع على برّيّة الشّام ومصر، فلمّا عادوا جميعًا نهائيًّا نقلوا إلى أوروبّا ما شاهدوه طوال مائتي سنة ونيّف من السّياسة والمدنيّة والمعارف والمدارس والمكاتب وعادات الممالك الإسلاميّة المستحسنة ورسومها وكان ذلك بداية تمدّن أوروبّا.

    يا أهل إيران! إلى متى هذا التّكاسل والتّراخي؟ كنتم متبوعي كلّ العالم وحاكميه، فما بالكم الآن قد سقطتم من أوج العزّة إلى هاوية الخمول؟ كنتم منشأ معارف العالمين ومبدأ حضارتهم فكيف صرتم مخمودين ذابلين؟ كنتم سبب نور الآفاق فكيف أمسيتم الآن في ظلمات الكسل والغفلة عاجزين؟ افتحوا عين البصيرة وأدركوا احتياجاتكم الحاليّة، شمّروا عن ساعد الهمّة والغيرة، واجتهدوا في سبيل تحصيل وسائل المعارف والمدنيّة، أيجدر بالطّوائف والقبائل الأجنبيّة أن تقتبس الفضائل والمعارف من آثار أسلافكم وأجدادكم وتبقون أنتم الورّاث والأخلاف محرومين عنها؟ أم أيليق أن يسعى المجاورون ليلاً ونهارًا إلى التّشبّث بوسائل الرّقيّ والعزّة والسّعادة وأنتم لتعصّبكم الجاهليّ تكونون منهمكين في النّزاع والعناد وملتهين بأهواء أنفسكم؟ وهل يكون ممدوحًا ومقبولاً أن تضيّعوا هذا الذّكاء الفطريّ والاستعداد الطّبيعيّ والفطنة الموهوبة وتصرفوها في الكسل والبطالة؟ لقد بعدنا عن المقصد مرّة أخرى استطرادًا.

    إنّ جميع العقلاء والمطّلعين على حقائق الأحوال التّاريخيّة للأزمان السّالفة من أهل أوروبّا المتّصفين بالصّدق والإنصاف يقرّون ويعترفون أنّ أساس جميع مدنيّتهم مقتبسة من الإسلام، من ذلك ما كتبه المؤلّف المحقّق المشهور "دري بار" الفرنسيّ الّذي يسلّم جميع مؤلّفي أوروبّا وعلمائها باطّلاعه وبراعته وعلمه، حيث شرح في كتابه «ترقّي الأمم» –وهو أحد كتبه الأدبيّة المشهورة– شرحًا مبسّطًا في باب اقتباس أمم أوروبّا

    لقوانين مدنيّتها وقواعد رقيّها وسعادتها من الإسلام، ولمّا كان بيانه مفصّلا كلّ التّفصيل فإنّ ترجمته وإدراجه في هذه الرّسالة يؤدّي إلى الإطناب الخارج عمّا هي بصدده. فإذا لم يقتنع أحد بما قيل فليرجع إلى ذلك الكتاب. وخلاصة ما بيّنه هي أنّ جميع تمدّن أوروبّا من قوانين ونظم وأصول ومعارف وحكم وعلوم وعادات ورسوم مستحسنة وآداب وصنائع ونظام وترتيب ومسلك وأخلاق بل وكثير من الألفاظ المستعملة في اللّغة الفرنسيّة مقتبس من العرب، وذكر ذلك كلّه مسألة مسألة وفصّل القول فيها، وأثبت لكلّ مسألة زمان اقتباسها من الإسلام، وكذلك ذكر بتفصيل دخول العرب بلاد الغرب المعروفة اليوم بأسبانيا، وكيف أنّهم أسّسوا مدنيّة كاملة في تلك الممالك بمدّة وجيزة، وإلى أيّة درجة من الكمال بلغت سياسة مدنهم ومعارفهم، وبأيّ إحكام وانتظام أسّسوا مدارسهم ومكاتب علومهم وفنونهم وحكمتهم وصنائعهم، وإلى أيّ شأو بلغت سيادتهم وعظمتهم في عام المدنيّة، وكيف أقبل كثير من أطفال عظماء ممالك أوروبّا على مدارس قرطبة وغرناطة وأشبيلية وطليطلة ليتعلّموا المعارف والفنون، ويكتسبوا المدنيّة حتّى لقد ذكر أنّ أحد أهل أوروبّا –وهو المسمّى بجربرت– رحل إلى مملكة الغرب ودخل مدرسة قرطبة الّتي كانت من ممالك العرب وحصّل المعارف والعلوم، فلمّا عاد إلى أوروبّا اشتهر اشتهارًا مكنّه من أن يتبوّأ سرير رئاسة الكاثوليك الدّينيّة ليشغل منصب البابا. والقصد من هذه البيانات هو أن يتّضح بأنّ الأديان الإلهيّة هي المؤسّس الحقيقيّ للكمالات المعنويّة والظّاهريّة للإنسان وأنّها مشرق اقتباس مدنيّة البشر ومعارفهم النّافعة العامّة ومصدرها.

    ولو أنّنا نظرنا بعين الإنصاف لرأينا جميع القوانين السّياسيّة تدخل في مدلول هذه الكلمات المباركات القلائل ألا وهي قوله تعالى: «ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصّالحين» وقوله: «ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون» وقوله: «إنّ الله


    يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تذكرون» وقوله في التّمدّن الخلقيّ: «خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين» وقوله أيضًا «الكاظمين الغيظ والعافين عن النّاس والله يحب المحسنين» وقوله أيضًا: «ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنّبيّين وآتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل والسّائلين وفي الرّقاب وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة والموفّون بعهدهم إذا عاهدوا والصّابرين في البأساء والضّراء وحين البأس أولئك الّذين صدقوا وأولئك هم المتّقون» وقوله أيضًا: «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. »

    لاحظوا كيف ذكرت في هذه الآيات المباركات القلائل درائج حقائق المدنيّة ولوامع الشّيم الإنسانيّة الجامعة المستحسنة، فو الله الّذي لا اله إلاّ هو إنّ ما تكوّنت منها حضارة العالم من أجزاء ليست إلاّ نتيجة ألطاف أنبياء الله أيضًا، أيّ أمر نافع وجد في الوجود دون أن يذكر في الكتب الإلهيّة المقدّسة تصريحًا أو تلويحًا؟ كما أنّه لا جدوى من وجود السّلاح والآلات الحربيّة بيد الجبان، حيث لا يؤدّي ذلك إلى حفظ الأموال والأرواح بل يكون حافزًا للسّارق في ازدياد قوّته وبطشه، كذلك أزمّة الأمور إذا تولّتها أيدي العلماء النّاقصين يكونون لنورانيّة الدّين حجابًا عظيمًا حائلاً. إنّ أساس الدّين هو الخلوص، بمعنى أنّ المتديّن يجب أن يتخلّى عن جميع أغراضه الشّخصيّة، ويسعى بكلّ الوجوه في سبيل خير الجمهور، ولا يتسنّى للنّاس أن يغمضوا الطّرف عن منافعهم الذّاتيّة ويفتدوا خير النّاس بخير أنفسهم إلاّ بالتّديّن الحقيقيّ، ذلك لأنّ طينة الإنسان مخمّرة بحبّ الذّات، ولا يتمكّن أحد أن يتخلّى عن مصالحه المادِّيّة المؤقّتة إلاّ أملاً في الأجر الجزيل والثّواب الجميل، إلاّ أنّ الشّخص المؤمن بالله والموقن بآياته عندما يتيقّن بالمثوبات الكلّيّة الأخرويّة، ويحسب النّعم الدّنيويّة جميعًا فانية زائلة مقابل العزّة والسّعادة الأخرويّة، فإنّه يترك راحته ومصالحه ابتغاء وجه الله

    ويؤثرها في سبيل نفع العموم من صميم قلبه. «ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله».

    ويظنّ البعض أنّ فطرة الإنسان تمنعه من ارتكاب الأعمال القبيحة، وتضمن له الكماليّات الصّوريّة والمعنويّة، وذلك يعني أنّ الّذي اتّصف بعقل طبيعيّ وحميّة ذاتيّة وشهامة فطريّة يمتنع ذاتيًّا عن أن يصيب العباد بالضّرّر، ويحرص على الأعمال الخيريّة دون أن يأخذ بعين الاعتبار العقوبات القاسية المترتّبة على الأعمال الشّرّيرة والمثوبات العظيمة الممنوحة للأفعال الحسنة. لو أمعنّا النّظر أوّلاً في التّواريخ العموميّة تبيّن لنا بوضوح بأنّ النّاموس الطّبيعيّ إنّما هو فيض من تعاليم أنبياء الله، وكذلك نلاحظ أنّ آثار التّعدّي والتّجاوز في الأطفال ظاهرة من صغر سنّهم، وفي حال حرمان الطّفل من تربية المربّي يزداد آنًا فآنًا في ممارسة سجايا غير مرضيّة. إذًا اتّضح بأنّ ظهور النّاموس الطّبيعيّ أيضًا من نتائج التّعليم. ثانيًا لو فرضنا أنّ العقل الطّبيعيّ والنّاموس الفطريّ يمنعان الشّرّ ويهديان إلى الخير، من الواضح جدًّا أنّ وجود مثل هؤلاء النّفوس كالإكسير الأعظم، لأنّ مثل هذا الادّعاء (أي تأثير النّاموس الطّبيعيّ) لا يثبت بالقول بل يتطلّب العمل، إذًا ما هو الأمر الّذي يجعل الجمهور مضطرًّا ليلجأ إلى النّيّات الحسنة والأعمال الصّالحة؟ أضف إلى ذلك أنّ الشّخص الّذي يضرب به المثل في العمل بموجب النّاموس الطّبيعيّ لو يتحلّى بخشية الله لا ريب أنّه سوف يتمكّن من ممارسة نواياه الحسنة بصورة أفضل وأكثر رسوخًا. وخلاصة القول إنّ الفوائد الكلّيّة لا تتمّ إلاّ من فيض الأديان الإلهيّة، ذلك لأنّها ترشد المتديّنين الحقيقييّن إلى صدق الطّويّة وحسن النّيّة والعفّة والعصمة الكبرى والرّأفة والرّحمة العظمى والوفاء بالعهد والميثاق وحريّة الحقوق والإنفاق والعدل في جميع الشّؤون والمروءة والسّخاء والشّجاعة والسّعي والإقدام على منفعة جمهور عباد الله، أو قل باختصار إنّها تدلّه على جميع الشّيم الإنسانيّة المرضيّة الّتي هي شمع عالم المدنيّة المنير، فإن لم يتّصف إنسان بهذه الصّفات الممدوحة فإنّه ما فاز قطّ بقطرة واحدة من يمّ

    الفرات العذب المتموّج في مجاري الكلمات التّعليميّة للكتب السّماويّة المقدّسة، وما استشمّ نفحة من روائح الرّياض الإلهيّة القدسيّة حيث لا يتمّ في عالم الوجود أمر بالقول وحده فلكلّ مقام مسلك وعلامة، ولكلّ شأن دليل وإشارة.

    ومجمل القول إنّ القصد من هذه البيانات هو أن يتّضح ويتبرهن أنّ الأديان الإلهيّة والشّرائع المقدّسة الرّبانيّة والتّعاليم السّماويّة هي أعظم أسس السّعادة البشريّة، وأنّه لا يتسنّى لأهل العالم النّجاح والفلاح الحقيقيّ بدون هذا التّرياق الفاروق، ولكن بشرط أن يكون هذا التّرياق بيد الطّبيب العالم الحاذق، وأما إذا وقعت كلّ هذه الأدويّة النّاجعة الّتي أوجدها ربّ العالمين لشفاء آلام بني آدم وأسقامهم في يد الطّبيب غير الحاذق فإنّها لا تؤدّي إلى الصّحة والعافية بل تكون سببًا لهلاك نفوس البؤساء وأذى لقلوب العاجزين، ومثال ذلك أنّ منبع الحكمة الإلهيّة ومظهر النّبوّة الكلّيّة، في تحريضه على اكتساب المعارف وترغيبه في اقتباس الفنون والكمالات أمر بقصده ولو كان ذلك في أقصى بلاد الصّين، ولكنّ الأطّباء غير الحاذقين يمنعون ذلك بعنادهم ويستدلون بـ «من تشبّه بقوم فهو منهم». مع أنّهم لم يدركوا وجه التّشابه، ولا يعلمون أنّ الشّريعة الإلهيّة المقدّسة تحثّ جمهور الأمّة على تمهيد أصول الإصلاحات المتتابعة، وترشدهم إلى اقتباس الفنون والمعارف من سائر الأمم، وكلّ من يقول بغير ذلك فهو محروم من سلسبيل العلم وهائم في بادية الجهل وراء سراب أغراضه النّفسيّة.

    انظروا الآن بعين الإنصاف أيّ هذه الإصلاحات الجديدة تخالف الأوامر الإلهيّة في حيّز القوّة كانت أم في حيّز الفعل؟ خذ أمر تأسيس مجالس الشّورى مثلاً فذلك منصوص في الآية المباركة حيث يقول:«أمرهم شورى بينهم» ، وكذلك يخاطب الله مطلع العلم ومنبع الكمال -وهو الحائز على الفضائل الكلّيّة المعنويّة والصّوريّة- بقوله: «وشاورهم في الأمر» ، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يكون أمر الشّورى مخالفًا لقوانين الشّريعة المقدّسة؟ ناهيك أنّ فضيلة المشورة ثابتة ومبرهنة بالدّلائل العقليّة

    ومجرّبة أيضًا. فهل ثمّة خلاف أو تباين مع الشّرائع الإلهيّة لو أنيط أمر قصاص المجرمين وإعدامهم بالتّحقيقات الدّقيقة وتصديق مختلف المجالس وثبوت القضيّة شرعًا، وتعليق تنفيذ الحكم بصدور الفرمان الملكيّ؟ وهل ما كان جاريًا في أيّام الحكومة السّابقة موافقًا لأحكام القرآن المبين؟ لقد سمع وبلغ ما بلغ إلى حد التّواتر أن حاكم گلپايگان قطع رقاب ثلاثة عشر رجلاً من عمداء قرى گلپايگان المساكين الّذين كانوا من السّلالة الطّاهرة في ساعة واحدة من دون جرم وبلا شفقة ولا سؤال ولا جواب ولا استئذان، وكان ذلك في أيّام صدارة الحاج ميرزا آقاسي. لقد كان عدد سكان إيران في زمن من الأزمان يفوق الخمسين مليون نسمة، فأدركهم التّلف بسبب بعض الحروب الدّاخليّة وغالبًا ما لعدم وجود القوانين واستبداد الولاة وكونهم مطلقي العنان والإرادة، وأخذ عددهم يتناقص شيئًا فشيئًا بمرور الأيّام حتّى لم يعد باقيًا أقلّ من خمسهم، ذلك لأنّ الحكّام كانوا ينكلون بنار القهر والتّعذيب كلّ بريء بمحض إرادتهم، أو يعطفون على قاتل أقدم على قتل أشخاص عديدة وثبت جرمه شرعًا وذلك وفقًا لمصالحهم الذّاتيّة. ولم يكن لأحد قدرة على الاعتراض ذلك لأن الحاكم كان يتصرّف كيف يشاء.

    أيمكن القول بأنّ هذه الأمور مطابقة للعدل والإنصاف أو موافقة لأحكام شريعة الله؟ أم أنّ الحضّ على تعلّم الفنون المفيدة واكتساب المعارف العموميّة والحثّ على الاطّلاع على حقائق الحكمة الطّبيعيّة النّافعة، والعمل على توسيع دائرة الصّنائع والاستزادة من مواد التّجارة والاستكثار من وسائل ثروة الأمّة مناف لأصول الدّين الإلهيّ؟ أم أنّ تنظيم أحوال المدن والضّواحي والقرى وتعمير الطّرق وتمهيد السّبل ومدّ خطوط القطارات وتيسير وسائل النّقل والحركة، والعمل على ترفيه كلّ الأهلين مضادّ لعبوديّتنا لله الأحد؟ أم أنّ استغلال المعادن المتروكة الّتي هي أعظم وسائل ثروة الدّولة والأمّة، وإنشاء المعامل والمصانع الّتي هي مصدر الرّاحة والطّمأنينة ومبعث الغنى والاقتدار للأمّة جميعًا، والتّرغيب في إيجاد

    الصّناعات الجديدة والحثّ على ازدهار البضائع الوطنيّة يغاير أوامر ربّ البريّة ونواهيه؟ قسمًا بذات ذي الجلال المقدّسة إنّني متحيّر كيف حجبت الأبصار بحيث لا تدرك هذه الأمور البديهيّة لهذا الحدّ. وما من شكّ في أنّ مثل هذه البراهين والأدلّة المحكمة، إذا ظهرت ووضحت أجابوا -لما يبطنون في صدورهم من غايات وأغراض لا عدّ لها ولا حصر- بأنّ النّاس لا يُسألون في يوم الحشر بين يدي الله عن معارف الإنسان ومدنيّته الكاملة بل يُسألون عن الأعمال الصّالحة.

    فإذا سلّمنا أوّلاً بأنّهم لا يٌسألون عن المعارف والمدنيّة، أفلا يؤاخذون يوم الحشر في المحكمة الإلهيّة بأن: يا رؤساء هذه الأمّة العظيمة وكبراءها! لماذا صرتم سببًا لسقوطها من أوج عزّتها القديمة، وحرمانها من المركز الّذي كانت حائزة عليه في حضارة العالم؟ رغم أنّكم كنتم قادرين على أن تتمسّكوا بوسائل تجعلكم سبب العزّة المقدّسة لهذه الأمّة، فلم يقتصر أمر أعمالكم بذلك فحسب بل تعدّاه إلى حرمان الأمّة من الفوائد الماديّة، ألم يكن هؤلاء القوم في سماء السّعادة كالنّجوم الزّاهية؟ كيف أصبحتم باعثًا على أن يهووا في هذه الظّلمة الدّهماء؟ كنتم مقتدرين على إيقاد سراج عزّة الدّنيا والآخرة في هذه الأمّة، فلِمَ لم تسعوا السّعي الحثيث؟ وحينما أضاء السّراج النّورانيّ بتوفيق الله لِمَ لم تحافظوا عليه بزجاج الهمّة من الرّياح العاصفة، ولماذا نهضتم لإطفائه بكلّ ما أوتيتم من قوّة؟ «وكلّ إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا. »

    وثانيًا أيّة أعمال صالحة أعظم في الوجود من نفع النّاس جميعًا؟ أتتصوّر موهبة في العالم أعظم من أن يكون الإنسان سببًا لتربية عباد الله ورقيّهم وعزّتهم وسعادتهم؟ لا والله! إنّ أكبر المثوبات أن يأخذ النّفوس المباركة بأيدي المساكين وينجّوهم من الذّلّة والمسكنة والجهل، ويشمّروا عن ساعد الهمّة بنيّة خالصة لله، وينهضوا لخدمة الأهلين ويتركوا مصالحهم الدّنيويّة ويسعوا في نفع النّاس جميعًا «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة»، «خير النّاس من ينفع النّاس وشرّ النّاس من يضرّ النّاس».

    سبحان الله! ما هذه الأمور والأحوال العجيبة الواقعة حيث لا ترى نفسًا يستمع القول بفراسة ودقّة ويدرك قصد القائل من قول ما ويتحقّق في ما استتر خلف ذلك من أغراض ذاتيّة. انظروا مثلاً كيف يقوم شخص من الأشخاص حائلاً دون سعادة جمهور من النّاس لا لشيء إلاّ لمنافعه الذّاتيّة اليسيرة، ولأن يدير طاحونته يخرّب مزارع جمع غفير ويحرق حقولهم عطشًا، ويدلّ النّاس دائمًا على تعصّب الجاهليّة المخرّب لبنيان المدنيّة لأجل الاحتفاظ بطاعتهم له. فإذا رأى هذا الرّجل -وهو الّذي ارتكب ذلك العمل المردود لدى باب الله والمبغوض من كلّ أنبياء الله وأوليائه- رجلاً يغسل يديه بعد الطّعام بصابون صنعه عبد الله البونيّ المسلم، ولم يمسح هذا المسكين يديه بذيله وثوبه ولحيته صاح مستغيثًا: قد انهار بنيان الشّريعة وسرت آداب ممالك

    الرجوع الى أعلى الصفحة  رسالة [صفحة 1 من اصل 1]

    صلاحيات هذا المنتدى:
    لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى