إعْلان لِملُوك الأرْض
إنّ البيانات الكريمة التي جاء ذكرها في الصّفحات السّابقة نزلت في معظمها على بهاء الله، وهو رهين الاضطهاد المتجدّد والمستمرّ. وصارَ واضحاً إثر وصول السّجين المنفيّ إلى الآستانة أنَّ مظاهر الإعزاز التي أحيطَ بها إبّان رحلته من بغداد، ما كانت إلاّ فترة وجيزة فاصلة مؤقّتة. فقرار السّلطات العثمانيّة بنقل "الزّعيم البابيّ" وأصحابه إلى عاصمة الإِمبراطوريّة، بدلاً من نفيه إلى مقاطعة نائية من المقاطعات زاد المخاوف عمقاً لدى ممثّلي الحكومة الفارسيّة. فألحّ السّفير الفارسيّ لدى الباب العالي في ضغوطه لكي يُبْعَدَ المنفيّون إلى إحدى الجهات النّائية من أطراف الإِمبراطورية العثمانيّة، إذ كان يخشى أنْ تتكرّر أحداث بغداد وأن يكسب بهاء الله هذه المرّة ليس فقط عطف الشّخصيّات ذات النّفوذ في الحكومة العثمانيّة بل وأنْ يفوز بولائهم أيضاً. وكانت حجّة السّفير أنّ انتشار الرّسالة الجديدة في العاصمة العثمانيّة قد يكون ذا نتائج سياسيّة ودينيّة غير محمودة.
قاومت الحكومة العثمانيّة في بادئ الأمر المطالب الفارسيّة بشدّة. وعبَّر رئيس الوزراء العثمانيّ عالي باشا للدّبلوماسيّين الغربيّين عن اعتقاده بأنّ بهاء الله "رجلٌ سامي المقام، مثاليّ التّصرّف، بالغ الاعتدال، وشخصيّة تتّسم بغاية الوقار والاحترام". أمّا تعاليمه فقد كانت في نظر رئيس الوزراء "جديرة بالاحترام البالغ" لأنها تسعى إلى محو العداوات المذهبيّة التي كانت تفرّق مواطني الإِمبراطوريّة من اليهود والمسيحيّين والمسلمين.
ولكنّ شيئاً من الشّكّ والاستياء أخذَ بالظّهور تدريجيّاً في الأوساط الحكوميّة. فقد كانت السّلطة السّياسيّة والاقتصاديّة في العاصمة العثمانيّة بيد موظّفي البلاط السّلطانيّ الذين كانوا، باستثناء نفر قليل منهم، عديمي الكفاءة والدّراية. وكانت الرّشوة بمثابة الوقود الذي من غيره لا تدور الآلة الحكوميّة. وكانت العاصمة كمغناطيس، تجتذب إليها حشوداً من النّاس يتقاطرون عليها من كلّ حدب وصوب، من داخل الإِمبراطوريّة وخارجها، طمعاً في كسب الرّعاية والنّفوذ. وكان من المتوقّع عند وصول شخصيّة مرموقة من دولة أخرى، أو من إحدى المقاطعات التّابعة للدّولة العثمانيّة، أنْ تنضمّ فوراً، إثر وصولها إلى الآستانة، إلى تلك الجموع الواقفة عند أبواب الوزراء والباشوات في البلاط العثمانيّ طلباً للرّعاية والنّفوذ. ولعلّ أكثر المتزلّفين سوء سمعة كانت تلك الفئات المتنافسة فيما بينها من السّاسة الفُرسْ المنفيّين والمعروفين بدهائهم وحنكتهم، وبأنّهم لا يقيمون وزناً لأيّ اعتبار في سبيل تحقيق مآربهم الشّخصيّة.
ترفّع بهاء الله عن كلّ ذلك. وحين ألحّ عليه بعض من الأصدقاء أن يستغلّ لمصلحته الأوضاع القائمة حينئذٍ من عداءٍ في الأوساط العثمانيّة تجاه الحكومة الفارسيّة وعطفٍ تجاه بهاء الله نتيجة الآلام التي تحمّلها، خيّب آمالهم موضّحاً للجميع بأنّ لا مطالب لديه يتقدّم بها لأحد. ورغم أنَّ العديد من الوزراء قام بزيارته في المقرّ الذي خصّص لسكناه زياراتٍ شخصيّة، رفض بهاء الله الاستفادة من الفرص المفتوحة أمامه، وعلّق قائلاً بأنَّه في الآستانة ينزل ضيفاً على السّلطان بدعوة من السّلطان نفسه، وأنَّ اهتماماته لا تكمن إلاّ في المسائل الرّوحيّة والخلقيّة.
وبعد مضيّ سنوات عديدة على هذه الأحداث كتب السّفير الفارسيّ ميرزا حسين خان ذكرياته عن تلك الفترة التي كان في أثنائها سفيراً لبلاده في العاصمة العثمانيّة. فأبدى امتعاضه وتذمّره من الضّرر الذي ألحقه بسمعة بلاده في العاصمة العثمانيّة جشع مواطنيه وعدم ائتمانيّتهم. وأدهش الجميع بما أجزله من ثناءٍ صادق على تصرّفات بهاء الله في تلك الفترة معتبراً إيّاها مثلاً يحتذى. أمّا في حينه، فقد كان للسّفير وزملائه موقف آخر. فقد استغلّوا مسلك بهاء الله المثاليّ ذلك ففسّروه على أنَّه أسلوب ذكيّ قَصَدَ به بهاء الله، على حدّ زعمهم، تغطية المؤامرات السّرّيّة ضدّ أمن الدّولةِ ودينها الرّسميّ. وتحت هذه الضّغوط الأخيرة اتّخذت السّلطات العثمانيّة، متأثرةً بهذه المزاعم، قراراً بنقل بهاء الله وأفراد عائلته إلى المدينة الإِقليميّة أدرنة. وتمّ
الانتقالُ بصورة سريعة وفي منتصف فصل شتاءٍ قارس. وهناك أمضى المنفيّون عاماً كاملا في شظف عيش، حيث نزلوا بيوتاً لا تصلح للسّكنى، وهم يفتقدون الملابس المناسبة والمؤن اللازمة. وبات من الواضح أنَّ الدّولة جَعلت منهم وبصورة اعتباطيّة سجناء لها، رغم أنّه لم تُوَجَّه إليهم تهمة، ولم تُعْطَ لهم فرصة للدّفاع عن أنفسهم.
يعطينا النّفي والإِبعاد المتتابع لبهاء الله إلى الآستانة ومنها إلى أدرنة مدلولاً رمزيّاً عميقاً من وجهة نظر التّاريخ الدّينيّ للبشر. فلأوّل مرة يَعْبُرُ مظهر إلهيّ ومؤسّس نظام دينيّ مستقلّ ـ قُدِّرَ له أنْ ينتشر بسرعة ليعمّ هذا الكوكب ـ يَعْبُرُ المضيق البحريّ الذي يفصل القارّة الآسيويّة عن القارة الأوروبيّة، ليطأ بقدميه تراب "العالم الغربيّ". أمّا الأديان الكُبرى الأخرى فقد نشأت في آسيا وأمضى مؤسّسوها فترات ولايتهم ضمن حدود تلك القارّة وحدها. وقد أشار بهاء الله إلى أنَّ الدّورات السّابقة وخاصّة تلك المتعلّقة بإبراهيم والمسيح ومحمّد تركت أبلغ أثر لها في نموّ الحضارة الإِنسانيّة أثناء توسّعها نحو الغرب وانتشارها فيه. وتنبّأ أن تتكرّر هذه التّجربة نفسها في هذا العصر الجديد، ولكن على نطاق أكثر شمولاً واتّساعاً: "قُلْ إنَّهُ قَدْ أشْرَقَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ وَظَهَرَ في الغَرْبِ آثارُهُ، تَفَكَّروا فيهِ يا قَوْمُ..."
ولعلّه ممّا لا يدعو إلى الاستغراب إذاً أن يختار بهاء الله تلك اللحظة من لحظات التّاريخ لكي يعلن عن بعثته إعلاناً عامّاً. فقد بدأت رسالته
تجتذبُ ببطء ولاء أتباع الباب في الشّرق الأوسط كلّه. وكان إعلانه العام هذا في شكل سلسلة من البيانات والتّصريحات التي يمكن اعتبارها من أندر الوثائق على الإِطلاق وأروعها في التّاريخ الدّينيّ للبشر. ففيها يوجّه المظهر الإِلهيّ نداءه إلى ملوك الأرض وحكّامها معلناً انبثاق فجر يوم الله، ملمّحاً إلى التّغييرات الخارقة، والتي لم تكن قد حدثت بعد، ولكنّها بدأت تأخذ شكلها وتستجمع قواها في جميع أنحاء العالم. ودعا بهاء الله هؤلاء الملوك والحكّام بصفتهم أمناء الله بين خلقه والمؤتَمَنين على الرّعيّة من النّاس لكي يقوموا ويسعوا لتحقيق وحدة العالم الإِنسانيّ. وذكّرهم بأنّ ما تكنّه لهم جماهير أتباعهم من تبجيل ومهابة، وما يتمتّعون به من سلطة مطلقة يمارسها معظمهم، يجعل في مقدورهم أن يساعدوا في تحقيق ما أسماه "بالصُّلْحِ الأكْبَرِ" نظاماً عالميّاً يتميّز بالوحدة والاتّحاد ويحيا بالعدل والإِنصاف في ظلّ الشّريعة الإِلهيّة.
لا يستطيع القارئ في يومنا هذا أن يتصوّر العالم الفكريّ والخلقيّ الذي عاش فيه أولئك الملوك والحكّام قبل قرن من الزّمان إلاّ بصعوبة بالغة. ويتّضح جليّاً من سيَرِهِمْ ومراسلاتهم الخاصّة أنّهم كانوا، باستثناء نفر قليل منهم، يتّصفون بالورع شخصيّاً ويقومون بدور رائد في الحياة الرّوحيّة لبلادهم كلٌّ في نطاق مملكته. وغالباً ما كانوا هم رؤساء الدّين في دُوَلِهم، يؤمنون بالحقائق المعصومة للقرآن الكريم أو الكتاب المقدّس من الإِنجيل والتّوراة، كلٌّ حسب معتقده. وأمّا
سلطتهم التي كانوا يزاولونها فقد اعتبروها مستمدّةً مباشرةً من تلك السّلطة الإِلهيّة المذكورة في كتبهم المقدّسة، ولم يتوانوا عن ذكر ذلك بكلّ قوّة واعتزاز، فالمشيئة الإِلهيّة هي التي اختارتهم ليكونوا حكّاماً في الأرض. ولم تكن النّبوءات المتعلّقة "بآخِرِ الأزْمِنَةِ" و"مَلَكوتِ اللهِ" في نظرهم أساطير وخرافات أو قصصاً رمزيّة وحكايات، ولكنْ حقائق ثابتة اعتمد عليها النّظام الخُلُقيّ كلّه، وهو النّظام الذي اعتقد معظمهم بأَنَّهم سوف يُسْألون عنه أمام الله ويُحاسَبون على ما فعلوه من أجله كأمناء لهذا النّظام. تُخاطب رسائل بهاء الله العالم الفكريّ ذلك أسلوباً وموضوعاً، وفيما يلي مقتطفات منها:
"يا مَعْشَرَ المُلوكِ قَدْ أتى المالِكُ وَالمُلْكُ لِلّهِ المُهَيْمِنِ القَيومِ، ألاّ تَعْبُدوا إلاّ اللهَ وَتَوَجَّهوا بِقُلوبٍ نَوْراءَ إلى وَجْهِ رَبِّكُمْ مالِكِ الأسْماءِ، هذا أمْرٌ لا يُعادِلُهُ ما عِنْدَكُمْ لَوْ أنْتُمْ تَعْرِفونَ... إيّاكُمْ أنْ يَمنَعَكُمُ الغُرورُ عَنْ مَشْرِقِ الظُّهورِ أوْ تَحْجُبَكُمُ الدُّنيا عَنْ فاطِر السَّماءِ... تاللهِ لا نُريدُ أَنْ نَتَصَرَّفَ في مَمالِكِكُمْ بَلْ جِئْنا لِتَصرُّفِ القُلوبِ..."
"ثُمَّ اعْلَموا بِأنَّ الفُقَراءَ أماناتُ اللهِ بَيْنَكُمْ، إِيّاكُمْ أنْ لا تخانوا في أماناتِهِ وَلا تَظْلِموهُمْ وَلا تَكونُنَّ مِنَ الخائِنينَ. سَتُسْألونَ عَنْ أمانتهِ في يَوْم الذي يُنْصَبُ فيهِ ميزانُ العَدْلِ ويُعْطى كُلُّ ذي حَقٍّ حَقَّهُ، وَيُوْزَنُ فيه كُلُّ الأعْمالِ مِنْ كُلِّ غَنيٍّ
وَفَقيرٍ... ثُمَّ اسْتَبْصِروا في أمْرنا وَتَبَيَّنوا فيما وَرَدَ عَلَيْنا، ثُمَّ احْكُموا بَيْننا وَبَيْنَ أعْدائِنا بِالعَدْلِ وَكونوا مِنَ العادِلينَ، وَإنْ لَنْ تَمْنَعوا الظّالِمَ عَنْ ظُلْمِهِ وَلَنْ تَأخُذوا حَقَّ المَظْلومِ، فَبِأيِّ شَيءٍ تَفْتَخِرونَ بَيْنَ العِبادِ وَتَكونُنَّ من المُفْتَخِرينَ..."
"وَإنْ لَنْ تَسْتَنْصِحوا بِما أنْصَحنَاكُم في هذا الكِتابِ بِلسانِ بِدْعٍ مُبينٍ، يَأخُذْكُمُ العَذابُ مِنْ كُلِّ الجِهاتِ، ويَأتيكم اللهُ بعَدْلِهِ. إذاً لا تَقْدِرونَ أنْ تَقوموا مَعَهُ وَتكونُنَّ مِنَ العاجِزينَ..."
لم تجد رؤيا "الصُّلْحِ الأكْبَرِ" أيّ صدىً في نفوس حكّام القرن التّاسع عشر. وكانت الاتّجاهات المتمثّلة في تعظيم الشّعور الوطنيّ وترسيخه والنّزعات التّوسعيّة للإِمبراطوريّات القائمة قد فازت بتأييد الملوك أنفسهم، وتأييد أعضاء المجالس النّيابيّة، والهيئات العلميّة والتّربوية، وأهل الفنّ ورجال الصّحافة والمؤسّسات الدّينيّة الكبرى، فأصبح كلّ طرف من هؤلاء داعيةً حماسيّاً لمبدأ سيادة الغرب وسيطرته العالميّة. وسرعان ما سقطت كافّة الاقتراحات المتعلّقة بالإِصلاحات الاجتماعيّة بغضِّ النّظر عن مثاليّتها وخلوص نواياها. ووقعت كلّها فريسةً لمجموعة من الفلسفات العقائديّة الحديثة التي ألقى بها المدّ المتصاعد للمذاهب الماديّة العنيدة في الغرب. أمّا في الشّرق، فقد أَصاب العالم الإِسلاميّ حالةٌ من الجمود والذّهول نتيجة ما ادّعاه لنفسه بأنّه يمثّل أقصى ما
يمكن للإِنسانيّة الوصول إليه في معرفة الله والحقيقة في يومه ذلك أو في أيّ وقت أو زمان في المستقبل البعيد. فاستمرّ ينزلق باطّراد في هوّة سحيقة من الجهل واللاّمبالاة ومن عداء عنيد ناصَبَ به الجنس البشريّ الذي رفض أنْ يعترف له بمركز الأولويّة الرّوحيّة بين الأديان التي يؤمن بها النّاس.
10
الوُصُول إلى الأراضِي المقَدَّسَة
قد يبدو من المحيّر، إذا ما أخذنا في اعتبارنا أحداث بغداد، أنْ يفوت السّلطات العثمانيّة توقّع النّتائج التي سوف تترتّب على استقرار بهاء الله في عاصمة إقليميّة أخرى. ففي غضون عام واحد من وصول سجينها إلى أدرنة، اجتذب وجوده الجليل في بادئ الأمر اهتمام الشّخصيّات المرموقة في الحياة الفكريّة والإِداريّة في تلك المنطقة، ومن ثمَّ حاز على تقديرهم وإعجابهم الحار. وكان من أخلص المعجبين ببهاء الله اثنان هما خورشيد باشا، والي المقاطعة، وشيخ الإِسلام، أبرز الوجهاء من رجال الدّين السّنّة. فأفزع ذلك ممثّلي القنصليّة الفارسيّة هناك. كما أفزعهم أنَّ عامّة الشّعب وأولئك القائمين على استضافة بهاء الله بدأوا ينظرون إليه على أنَّه وليّ من الأولياء، وحكيم من حكماء الدّين. ويرون أنَّ حقيقة تعاليمه تنعكس ليس فقط في ما تمثّله حياته الطّاهرة، ولكن أيضاً في التّأثير العميق الذي أحدثته تلك التّعاليم فغيّرت نفوس ذلك السّيل من أهل فارس الذين احتشدوا في هذه البقعة النّائية من الإِمبراطورية العثمانيّة قاصدين زيارته.
وأقنعت هذه التّطوّرات غير المتوقّعة السّفير الفارسيّ وزملاءه أنَّ المسألة باتت مسألة وقت قبل أن تقوم الدّعوة البهائيّة، التي كان انتشارها مستمرّاً في بلاد فارس، بتوطيد أركان نفوذها في الإِمبراطوريّة المتاخمة للإِمبراطوريّة الفارسيّة والمنافسة لها. وكانت الإِمبراطورية العثمانيّة المتداعية الأركان تقاوم، في هذه الفترة من تاريخها، غزوات روسيا القيصريّة بالإِضافة إلى الثّورات المتفاقمة بين الشّعوب التّابعة لها. ثمّ كانت هناك المحاولات المتواصلة من قبل الحكومتين البريطانيّة والنّمساويّة، اللّتين كانتا تظهران العطف، وتضمران فصل عدد من الأقاليم العثمانيّة لتوسّع كلّ واحدة منهما إمبراطوريّتها. وأدّت هذه الأحوال السّياسيّة غير المستقرّة في الأقاليم العثمانيّة الواقعة في القارّة الأوروبيّة إلى إقامة حجج ملحّة جديدة دعَّم بها السّفير الفارسيّ التماساته بإبعاد المنفيّين إلى مقاطعة نائية بحيث تنقطع سبل الاتّصال بعد ذلك بين بهاء الله والأوساط ذات النّفوذ، عثمانيّةً كانت أم غربيّة.
وعندما عاد وزير الخارجيّة العثمانيّ فؤاد باشا من زيارة تفقّدية أجراها في منطقة أدرنة كتب تقريراً عبّر فيه عن دهشته البالغة لما أصبح يتمتّع به بهاء الله من سمعة عالية في جميع أرجاء الإِقليم، فعزّز ذلك من مخاوف السّفارة الفارسيّة والاقتراحات التي قدّمتها إلى الحكومة العثمانيّة. وفي هذا الجوّ من تضارب الآراء قرّرت الحكومة العثمانيّة، وبصورة مفاجئة، أنْ تفرض على ضيفها السّجين قيوداً صارمة. ففي
باكورة يوم، ودون أيّ إنذار سابق، طوّق الجند منزل بهاء الله في أدرنة وأُمِرَ أصحابُه المنفيّون بإعداد العدّة للسّفر إلى جهة مجهولة.
كان المكان الكالح الذي تمّ اختياره كآخر منفىً لبهاء الله مدينة عكّا المسوّرة الواقعة على ساحل الأراضي المقدّسة. وقد عُرِفَتْ عكّا في جميع أرجاء الإِمبراطوريّة العثمانيّة بفساد مناخها، وبتفشِّي الأمراض العديدة فيها. وكانت الدّولة العثمانيّة تستخدمها كمستعمرة للقصاص، فتسجن فيها المجرمين الخطرين أملاً في ألاّ يطول بقاؤهم هناك على قيد الحياة بسبب رداءة المناخ وفساد الهواء.
وصل بهاء الله إلى عكّا في شهر آب (أغسطس) من عام 1868 يصحبه أفراد عائلته ومجموعة من أتباعه الذين نفوا معه. فقاسى هؤلاء الآلام وتحمّلوا الإِساءة والاعتساف طوال عامين داخل أسوار المدينة ذاتها. وفُرِضَ عليهم بعد ذلك الإِقامة القسريّة داخل بناءٍ يملكه أحد التّجّار المحلّيّين. ولفترة طويلة من الزّمن تحاشاهم أهل المدينة الذين سيطرت عليهم الخرافات، وهم الذين تمّ إنذارهم مِنْ على المنابر ضدّ "ربّ العجم" فصوّر الوُعّاظ بهاء الله على أنّه عدوٌّ للنّظام العامّ ومروّجٌ لأفكار الإِلحاد والفسق والفجور. وقضى عدد من أفراد ذلك النّفر القليل من المنفيّين نتيجةً لما تعرّضوا له من حرمان ولِظروفٍ أخرى قاسَوْها.
يبدو لنا الآن، ونحن نستعيد أحداث الماضي ونتأمّلها، كم كانت سخرية القدر قاسية حقّاً بالنّسبة لأعداء بهاء الله من أصحاب السّلطة الدّينيّة والمدنيّة الذين كانوا يهدفون للقضاء على نُفوذِه الرّوحيّ والدّينيّ، فأفْضَتْ كافّة محاولاتهم وضغوطهم إلى أن تكون الأرض المقدّسة دون غيرها المكان المختار لِتُفْرض فيه على بهاء الله الإِقامة الجبريّة. فقد كانت فلسطين التي تقدّسها الأديان التّوحيديّة الثّلاثة وتعتبرها ملتقى عوالم الله وعالم الإِنسان، تُعتَبر آنذاك، كما كان الحال منذ آلاف السّنين، مكاناً متميّزاً تعلّقت به آمال البشر. وقد اتّفق أنّه، قبل مجيء بهاء الله إلى الأراضي المقدّسة بأسابيع قليلة، أبحر الرّعيل الأول من زعماء الحركة البروتستانتيّة المعروفة بفرسان الهيكل الألمان من أوروبا ليُقيموا عند سفح جبل الكرمل المطلّ على حيفا مستعمرةً لهم استعداداً لاستقبال السّيّد المسيح، اعتقاداً منهم بأنّ عودته باتت وشيكة. وإلى يومنا هذا يمكن للنّاظر مشاهدة كلمات مثل "إنَّ الرّبَّ لَقَريبٌ" باللّغة الألمانيّة محفورة في أسْكفات العديد من مداخل البيوت التي شيّدوها والتي كان سجن بهاء الله، عبر الخليج، مواجهاً لها.
استكمل بهاء الله ما بدأه في أدرنة فأملى سلسلة من الرّسائل وجّهها إلى بعض الملوك والحكّام بصورة فرديّة. وتتضمّن العديد من هذه الرّسائل إنذاراته بيوم الحساب حين يُسأل هؤلاء عن ظلمهم للرّعيّة وإهمالهم لشؤونها، وهي الإنذارات التي تمّ تحقّقها بصورة مثيرة وأدّت
إلى قيام نقاش ومداولات عامّة بشأنها في كل أنحاء الشّرق الأدنى. فبعد مضي أقلّ من شهرين على وصول المنفيّين إلى مدينة السّجن، مثلاً، طُرِدَ فؤاد باشا وزير الخارجيّة العثمانيّ من منصبه بصورة مفاجئة ثم أصابته نوبة قلبيّة أودت بحياته وهو خارج وطنه في فرنسا. وكان فؤاد باشا هو صاحب ذلك التّقرير المليء بالاتّهامات الباطلة والذي نتج عنه النّفي والإِبعاد الأخير. وصدر بيان من قلم بهاء الله بهذه المناسبة توقّع فيه إقالة زميل فؤاد باشا، وهو رئيس الوزراء عالي باشا. كما أشار إلى ما سيكون من سقوط السّلطان وموته، وفقدان الأقاليم الخاضعة للحكم العثماني في أوروبا، وهي سلسلة من الكوارث التي لحقت بعد ذلك بالكيان العثمانيّ الواحدة بعد الأخرى.
أمّا رسالة بهاء الله إلى الإِمبراطور نابليون الثّالث فقد حَمَلَتْ إليه، بسبب نفاقه وظلمه، هذا الوعيد:
"بِما فَعَلْتَ تَخْتَلِفُ الأُمورُ في مَمْلَكَتِكَ، وَيَخْرُجُ المُلْكُ مِنْ كَفِّكَ جَزاءَ عَمَلِكَ... أغرَّكَ عِزُّكَ لَعَمْري إنّهُ لا يَدومُ..."
أمّا الكوارث النّاجمة عن الحرب الفرنسيّة البروسيّة وما نتج عنها من سقوط نابليون الثّالث فقد حدثت كلّها في أقلّ من عام واحد إثر صدور هذا البيان. وكتب أليستر هورْن الباحث المعاصر في التّاريخ السّياسيّ الفرنسيّ للقرن التّاسع عشر تحليلاً لهذه الأحداث فقال:
"ولعلّ أبلغ مثل في التّاريخ الحديث على ما أسماه الاغريق peripateia، ومعناها السّقوط الشّنيع من أعلى ذُرا الرّفعة والاعتزاز، هو ما حدث لفرنسا. فلقد انهار ذلك البلد انهياراً سريعاً وتعرّض لأسوأ أنواع الإِذلال والانكسار، على الرّغم مما كان يرفل فيه من الفخامة الظّاهريّة وما حقّقه من إنجازات مادّيّة وافرة..."
يضاف إلى ذلك أنّه، وقبل أشهر قليلة من سلسلة الأحداث غير المتوقّعة في أوروبا والتي قامت في أثنائها قوّات المملكة الإِيطاليّة الجديدة بغزو المقاطعات البابويّة والاستيلاء على روما، وهي العاصمة البابويّة، أنزل بهاء الله بياناً وجّهه للبابا بيوس التّاسع فحثّ الحَبْرَ البابويّ على ما يلي:
"دَعِ المُلْكَ لِلمُلوكِ وَاطْلُعْ مِنْ أُفُقِ البَيْتِ مُقْبِلاً إلى المَلَكوتِ... كُنْ كما كانَ مَوْلاكَ... إنَّهُ قَدْ أتى يَوْمُ الحَصادِ وَفُصِلَ بَيْنَ الأشْياءِ. خَزَنَ ما اخْتارَ في أواعي العَدْلِ وألقَى في النّارِ ما يَنْبَغي لها..."
ووجّه بهاء الله في الكتاب الأقدس تحذيراً إلى ويلهلم الأوّل، الملك البروسيّ الذي أحرزت قوّاته انتصاراً ساحقاً في الحرب البروسيّة الفرنسيّة، دعاه فيه إلى أن يتّعظ ويعيَ الدّرس الذي تَمثَّل في سقوط نابليون الثّالث وغيره من الحكّام الذين زال حكمهم رغم ما حقّقوه
من فوز ونصر في حروب سابقة. ونصحه بأن لا يسمح لكبريائه أن تحول بينه وبين الاعتراف بصحة هذه الرّسالة الإِلهيّة. إلاّ أنّ بهاء الله رأى بثاقب البصيرة أنّ الإمبراطور البروسيّ (الألمانيّ) سوف يتجاهل الاستجابة لذلك التّحذير، وهو ما يبدو جليّاً في الفقرة التّالية، وهي الفقرة التي تهدّد بعظيم الأمور والواردة في ما تَلِيَ من الآيات في نفس ذلك الكتاب:
"يا شَواطئَ نَهْرَ الرَّيْنِ، قَدْ رَأيْناكِ مُغَطَّاةً بِالدِّماءِ بِما سُلَّ عَلَيْكِ سُيوفُ الجَزاءِ، وَلَكِ مَرّةً أخْرى ونَسْمَعُ حَنينَ البَرْلين وَلَوْ أنَّها اليَوْمَ عَلى عِزٍّ مُبينٍ."
ومن جملة هذه البيانات الرّئيسيّة يتميّز بيانان بلهجة تختلف عمّا سبق بصورة تلفت النّظر: البيان الأوّل هو الموجّه إلى "الملكة فكتوريا" والآخر الموجّه إلى "مُلوكِ أمْريقا [أمريكا] وَرُؤساءِ الجُمْهور فيها". فيثني بهاء الله في البيان الأوّل على الإِنجاز الرّائد الذي تمثّل في إلغاء الرّقّ في كلّ أنحاء الإِمبراطوريّة البريطانيّة، ويُزكّي مبدأ الحكم التّمثيليّ. أمّا البيان الثّاني فيفتتحه بالإِعلان عن مجيء يوم الله ويختتمه بدعوةٍ منه هي في الحقيقة تكليف لا مثيل له في أيٍّ من البيانات السّابقة:
"أجْبروا الكَسيرَ بأيادِيَ العَدْلِ، وَكَسِّروا الصَّحيحَ الظّالِمَ بِسياطِ أوامِرِ رَبِّكُمْ الآمِرِ الحَكيمِ..."
11
الدِّينُ نورٌ وظَلام
أدانَ بهاء الله بشدّة الحواجز التي أقامتها الأنظمة الدّينيّة حائلاً بين المظهر الإِلهيّ وبني البشر. فالاعتقادات المستوحاة من الأوهام والخرافات الشّائعة والتي أُهدرَ في صقلها جهودٌ ذهنيّة وعقليّة، كانت باستمرار تُعَطِّلُ التّدبير الإِلهيّ الذي كان هدفه دائماً روحيّاً وخُلقيّاً. فالأحكام المتعلّقة بالتّفاعل الاجتماعيّ والتي نزلت بغرض تدعيم حياة الجامعة الإِنسانيّة، تحوّلت إلى قواعد لأنظمةٍ من المذاهب والشّعائر المبهمة، وبدل أن تقوم على خدمة مصالح جماهير البشر، أصبحت، على مرّ السّنين، عبئاً ثقيلاً عليهم. وحتّى العقل، وهو الوسيلة الأولى التي يملكها الجنس البشريّ لاكتشاف حقائق الأمور، هذا العقل عُطِّلَ إسهامه عمداً مما سبّب انهياراً للحوار بين العِلمِ والدّين، وهو أمرٌ يعتمد عليه قيام الحياة الحضاريّة.
ونتج عن هذا السّجلّ المؤسف من الأحوال والظّروف تشويهٌ لسمعةِ الدّين على نطاق عالميّ واسع. والأسوأ من ذلك، فإنَّ الأنظمة الدّينيّة
ذاتها أصبحت علّة من أخبث العلل في إثارة الكراهية والحروب بين الشّعوب. لقد أنذرنا بهاءُ الله قبل ما يزيد على قرن من الزّمان، فقال:
"إنَّ الضّغينَةَ وَالبَغْضَاءَ بَيْنَ المَذاهِبِ نارٌ تُحْرِقُ العالَمَ. وَإطْفاؤها أمرٌ جِدُّ عَسيرٍ ما لَمْ تُخَلِّصْ يَدُ القُدْرَةِ الإِلهيّةِ النّاسَ مِنْ هذا البلاءِ العَقيم..."
(مترجم عن الفارسية)
أمّا الذين سوف يحاسبهم الله على قيام هذه المأساة، يقول بهاء الله، فهم قادة الدّين الذين تجرَّأوا على التّحدّث نيابة عن الله عبر التّاريخ. إنَّ محاولاتهم ليجعلوا كلمة الله حكراً لهم، ومن تفسيرها وسيلةً ينالون بها لأنفسهم التّبجيل والتّعظيم، كانت أخطرَ عقبة فرديّة كافحت ضدّها الإِنسانيّة في مسيرة تقدّمها. ولم يتورّع الكثيرون من هؤلاء في مهاجمة رسل الله أنفسهم تحقيقاً لأغراضهم ومآربهم الشّخصيّة:
"إنَّ عُلَماءَ العَصْرِ في كُلّ الأزْمانِ كانوا سَبَباً لِصَدِّ العِبادِ وَمَنْعِهِمْ عَنْ شاطئِ بَحْرِ الأحَدِيَّةِ، لأنَّ زِمامَ هؤلاءِ العِبادِ كانَ في قَبْضةِ قُدْرَتِهِمْ. فَكانَ بَعضُهُمْ يَمْنَعُ النّاسَ حُبّاً لِلرِّياسَةِ، وَالبَعْضُ الآخَرُ يَمْنَعهُمْ لِعَدَمِ العِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ. كَما أنَّهُ بِإذْنِ عُلَماءِ العَصْرِ وَفَتاويهِمْ قَدْ شَرِبَ جَميعُ الأنْبِياءِ سَلْسَبيلَ الشَّهادَةِ..."
(مترجم عن الفارسية)
وفي بيان وجّهه بهاء الله إلى رجال الدّين في كلّ مذهب ينذرهم ويلفت أنظارهم إلى تلك المسؤوليّة التي تهاونوا تهاوناً خطيراً في تحمّلها على مرّ السّنين:
"مَثَلُكُمْ كَمَثَلِ عَيْنٍ إذا تَغَيَّرَتْ تَغَيَّرَتِ الأنْهارُ المُنْشَعِبَةُ مِنْها. اتّقوا الله وَكونوا مِنَ المُتَّقينَ. كَذلك الإِنْسانُ إذا فَسَدَ قَلْبُهُ تَفْسُدُ أرْكانُهُ. وَكَذلِكَ الشَّجَرُ إنْ فَسَدَ أصْلُها تَفْسُدُ أغْصانُها وَأفْنانُها وأوراقُها وَأثمارُها."
نزلت هذه البيانات من يراع بهاء الله في وقت كانت فيه حركات المحافظة على الدّين تمثّل قوّة من أهمّ القوى في العالم، فصرّح بهاء الله في هذه البيانات بالذّات بأنّ هذه القوّة قد انتهت فعلاً، وأنَّ طبقة علماء الدّين لم يعد لها بعد اليوم من دور اجتماعيّ تقوم به في التّاريخ الإِنسانيّ.
"يا مَعْشَرَ العُلَماءِ لَنْ تَجِدُنَّ أنْفُسَكُمْ بَعْدَ اليَوْمِ أصْحابَ القُدْرَةِ وَالقُوَّةِ..."
(مترجم عن الفارسية)
وخاطب بهاء الله عَالِماً من علماء المسلمين، وكان من أشدّ الحاقدين من معارضيه، قائلاً:
"يا غافِلْ لا تَطْمَئِنَّ بِعِزِّكَ وَاقْتدارِكَ، مَثَلُكَ كَمَثَلِ بَقِيَّةِ أثَرِ الشَّمسِ عَلى رؤوسِ الجِبالِ سَوْفَ يُدرِكُها الزَّوالُ مِنْ لَدَى اللهِ الغَنِيِّ المُتَعالِ. قَدْ أُخِذَ عِزُّكَ وَعِزُّ أمْثالِكَ..."
وليس تنظيم النّشاطات الدّينيّة هو المقصود في هذه البيانات، إنّما المقصود هو استغلال المصادر الدّينيّة وسوء استخدامها. ويُجزلُ بهاء الله الثّناءَ في آثاره ليس فقط على الإِسهام الذي حقّقته النّظم الدّينيّة في نموّ الحضارات الإِنسانيّة، بل أيضاً على الفوائد الجمّة التي جناها العالم من محبّة للبشر وتضحية للنّفس ميّزت رجال الدّين والرّهبانيّات المنتمية إلى كلّ المذاهب والأديان:
"أمّا هؤلاءِ العُلَماءُ الذينَ تَزَيَّنوا حَقيقَةً بِطِرازِ العِلْمِ وَالأخْلاق، فَهُمْ بِمَثابَةِ الرَّأسِ لِهَيْكَلِ العالَمِ وَالبَصَرِ لأهْلِ الأُمَمِ..."
(مترجم عن الفارسية)
وممّا لا ريب فيه أنّ التّحدّي الذي يواجه البشر جميعاً، مؤمنين كانوا أم غير مؤمنين، رجال دين كانوا أم أفراداً عاديّين، هو إدراك النّتائج الوخيمة التي ألمّت بالعالم بسبب فساد الدّافع الدّينيّ فساداً شاملاً. ففي هذا الوقت الذي بعدت فيه الإِنسانيَّة عن الله طوال قرن من الزّمان، انهارت العلاقة التي تقوم عليها بِنْيَة الحياة الرّوحيّة والأخلاقيّة.
وأهملت بصورة شاملة القُدرات الطّبيعيّة الخاضعة للنّفس النّاطقة، وهي القُدرات الضّروريّة لنموّ القيم الإِنسانيَّة والمحافظة عليها:
"لَقَدْ ضَعُفَتْ قُوَّةُ الإِيمانِ وَبِنْيَتُهُ في أقْطارِ العالَمِ، فَهُوَ يَحْتاجُ لِلدِّرْياقِ الأعْظَمِ... وَلَقَدْ باتَتِ الأممُ كَالنُّحاسِ أصابَهُ الاسْوِدادُ تَحْتاجُ للإِكسيرِ الأعْظَمِ... وَلَنْ يَكونَ إلاّ في مَقْدورِ الكَلِمَةِ الإِلهيَّةِ تَغْييرُ هذِهِ الأوْضاعِ."
(مترجم عن الفارسية)
12
السَّلام العَالميّ
إنّ إنذارات بهاء الله ومناشداته الواردة في آثاره إبّان هذه الفترة، تكتسب خطورةً وصرامةً رهيبة في ضوء ما تلاها من أحداث:
"يا أصْحابَ المَجْلِسِ في هُناكَ وَدِيارٍ أخْرى تَدَبَّروا وَتَكَلَّموا فيما يَصْلُحُ بِهِ العالَمُ وحالُهُ لَوْ أنْتُمْ مِنَ المُتَوَسِّمينَ. فانْظُروا العالَمَ كَهَيْكَلِ إنْسانٍ، إنَّهُ خُلِقَ صَحيحاً كامِلاً فَاعْتَرَتْهُ الأمْراضُ بالأسْبابِ المُخْتَلِفَةِ المُتَغايِرَةِ وَما طابَت نَفْسُهُ في يَوْمٍ بل اشْتَدَّ مَرَضُهُ بما وَقَعَ تَحْتَ تَصَرُّفِ أطبّاء غَيْرِ حاذِقَةٍ الذينَ رَكبوا مَطيَّةَ الهَوى وَكانوا مِنَ الهائِمينَ. وَاليَوْمَ نَراهُ تَحْتَ أيْدي الذينَ أخَذَهُمْ سُكْرُ خَمْرِ الغُرورِ عَلى شَأنٍ لا يَعرِفونَ خَيْرَ أنْفُسِهِمْ، فَكيْفَ هذا الأمْرُ الأوْعَرُ الخَطيرُ..."
"هذا يَوْمٌ فيهِ تُحَدِّثُ الأرْضُ بما فيها، وَالمُجْرِمونَ أثْقالُها لَوْ كُنْتُمْ مِنَ العارِفينَ..."
"لَقَدْ خُلِقَ الجَميعُ مِنْ أجْلِ إصلاحِ العالَمِ، ولَعَمْرُ الله لَيْس مِنْ شِيَمِ الإِنْسانِ السُّلوكُ مَسْلَكَ وُحوشِ الغابِ وَلا يَليقُ ذَلِكَ بِمَقامِهِ... فَشَأْنُ الإِنْسانِ الرَّحْمَةُ وَالمَحَبَّةُ وَالشَّفَقَةُ وَالوِئامُ مَعَ جَميعِ أهْلِ العالَمِ."
(مترجم عن الفارسية)
"إنَّ جَميعَ أهْلِ الأرْضِ في هذا العَصْرِ في حَرَكَةٍ وَتَقَدُّمٍ وَلَمْ يَتَمَكَّنَ أحدٌ مِنَ النّاس مِنْ اكتِشافِ سَبَبِ هذِهِ الحَرَكَةِ وَغَايَتِها... فَشاهِدوا كَيْفَ شَطَّ أَهْلُ الغَرْبِ فَتَمَسَّكوا بالأُمورِ التَّافِهَةِ عَديمَةِ الفائِدَةِ وَفي سَبيلِها ضَحّوا بِالآلافِ المؤَلَّفةِ مِنَ النُّفوسِ."
(مترجم عن الفارسية)
"حَقاً أقولُ إنَّ المَحْبوبَ في كُلّ أمرٍ مِنَ الأمورِ هُوَ الاعْتِدالُ. ومَتَى تَجاوَزَ صارَ سَبَبَ الإِضْرارِ... إنَّ في الأرْضِ أسْباباً عَجيبَةً غَريبَةً، وَلَكِنَّها مَسْتورَةٌ عَنِ الأفْئِدَةِ وَالعُقولِ. وَتِلْكَ الأسْبابُ قادِرَةٌ على تَبْديلِ هَواءِ الأرْض كُلِّها وَسُمِّيَّتُها سَبَبٌ للهَلاكِ."
(مترجم عن الفارسية)
حثَّ بهاء الله في آثاره اللاّحقة، بما في ذلك تلك التي وجّهها إلى أهل العالم جماعةً، على اتّخاذ الخطوات اللاّزمة لتحقيق ما أسماه
"بالصُّلْحِ الأكْبَرِ". وقال إنّ مثل هذا التّحرّك سيخفّف من وطأة الآلام وحدّة الاضطرابات والانحلال التي رآها تعترض طريق البشر، وإنّ ذلك لن يحدث حتى يعتنق أهل الأرض الأمرَ الإِلهيّ، وعن طريقه يتمّ تحقيق السّلام الأعظم أو "الصُّلْحِ الأكْبَرِ":
"لا بُدَّ أنْ تُشَكَّلَ في الأرْضِ هَيْئَةٌ عُظْمى. يَتَفاوَضُ المُلوكُ وَالسّلاطينُ في تِلْكَ الهَيْئَةِ بِشأنِ الصُّلْحِ الأكْبَرِ، وَذَلِكَ بِأنْ تَتَشَبَّثَ الدُّوَلُ العُظْمى بِصُلْحٍ مُحْكَمٍ لِراحَةِ العالَمِ. وَإذا قامَ مَلِكٌ عَلى مَلِكٍ قامَ الجَميعُ مُتَّفِقينَ عَلى مَنْعِهِ. وَبِهذِهِ الحالةِ لا يَحْتاجُ العالَمُ قَطُّ إلى المُهمّاتِ الحَرْبيَّةِ وَالصُّفوفِ العَسْكَرِيَّةِ إلاّ عَلى قَدْرٍ يَحْفَظونَ بِهِ مَمالِكَهُمْ وَبُلْدانَهُمْ... سَيَتَزيَّنُ جَميعُ أهْلِ العالَمِ قَريباً بِلِسانٍ واحِدٍ وَخَطٍّ واحِدٍ وَفي هذِهِ الحالَةِ إذا اتَّجَهَ أيُّ شَخْصٍ إلى بَلَدٍ فَكَأنَّهُ وَرَدَ إلى بَيْتِه... فَالإِنْسانُ اليَوْمَ، هُوَ الذي قامَ عَلى خِدْمَة جَميعِ مَنْ عَلى الأرْضِ... لَيْسَ الفَخْرُ لِمَنْ يُحِبُّ الوَطَنَ بَلْ لِمَنْ يُحِبُّ العالَمَ. يُعْتَبَرُ العالَمُ في الحَقيقَةِ وَطَناً واحِداً وَمَنْ عَلى الأرْضِ أهْلَهُ."
(مترجم عن الفارسية)
13
"وَلِعَمْري انّي مَا أظهرتُ نَفْسِي بَلْ اللهُ أظْهَرَنِي كَيفَ أرَاد"
وفي رسالةٍ إلى ناصر الدّين شاه الذي كان يحكم بلاد فارس في ذلك الوقت، تغاضى بهاء الله عن توجيه اللّوم إليه أو ذكر ما أصابه بأمر الشّاه من سجن في "سياه چال" ومظالم أخرى تحمّلها. فكتب إليه عن الخطّة الإِلهيّة ودوره الشّخصيّ فيها قائلاً:
"يا سُلْطانُ، إنّي كُنْتُ كَأحَدٍ مِنَ العِبادِ وَراقِداً عَلى المِهادِ مَرَّتْ عَلَيّ نَسائِمُ السُّبْحانِ وَعَلَّمَني عِلْمَ ما كانَ. لَيْسَ هذا مِنْ عِنْدي بَلْ مِنْ لَدُنْ عَزيزٍ عَليمٍ. وأمَرَني بِالنِّداءِ بَيْنَ الأرْضِ وَالسَّماءِ بذلِكَ وَرَدَ عَلَيَّ ما ذُرِفَتْ بِهِ دُموعُ العارِفينَ. ما قَرَأتُ ما عِنْدَ النّاسِ مِنَ العُلومِ وَما دَخَلْتُ المَدارِسَ، فَاسْألِ المَدينَةَ التي كُنْتُ فيها لِتُوْقِنَ بأنّي لَسْتُ مِنَ الكاذبينَ."
فالرّسالة التي عُهِدَتْ إليه لم تكن من عنده وكان قوله "لَعَمْري إنّي ما أظْهَرتُ نَفْسِي بَلِ اللهُ أظْهَرنِي كَيْفَ أرادَ". إنّها الرّسالة التي وهبها
حياته، وفقد في سبيلها ابنه الأصغر الحبيب ، وضحّى من أجلها بكلّ ما يمتلك من متاع الدّنيا، واعتلّت بسببها صحّته، وجلبت له السّجن والنّفي والاعتساف.
"يا قَوْمُ هَلْ تَظُنّونَ بِأنَّ الأمْرَ بِيَدي لا فونَفْس الله المُقْتَدِرِ المُتَعالي العَليمِ الحَكيمِ. فَوَاللهِ لَوْ كانَ الأمْرُ بِيَدي ما أظْهَرتُ نَفْسي عَلَيْكُمْ في أقَلّ مِنْ آنٍ وَما تَكَلَّمْتُ بِكَلِمَةٍ وَكانَ اللهُ عَلى ذلكَ شَهيدٌ وعَليمٌ..."
وبما أنّه سلّم أمره إلى الله بكلّ إخلاص ولبّى النّداء، فقد كان بالمثل مطمئنّاً للدّور الذي أنيط به في سياق التّاريخ الإِنسانيّ. فهو مظهر الله في زمن تحقّقت فيه الوعود، وهو الذي وعدت به كلّ الكتب السّابقة: إِنَّه "مُشْتَهى كُلِّ الأمَمِ" و"مَلِكُ المَجْدِ". وهو "رَبُّ الجُنودِ" بالنّسبة لبني إسرائيل، وعودة "السّيد المسيح في مجد أبيه" بالنّسبة للعالم المسيحيّ، وهو "النّبأ العظيم" بالنّسبة للمسلمين، وهو "ميترا بوذا" بالنّسبة للبوذيّين، وتَجَسُّد "كريشنا الجديد" بالنّسبة للهندوسيّين، ومجيء "شاه بهرام" بالنّسبة للزردشتيّين.
وتماماً كما كان الحال مع المظاهر الإِلهيّة السّابقة، فإنّ بهاءَ الله اليوم كلمة الله وواسطتُه مع البشر:
"يا إلهي إذا أنْظُرُ إلى نِسْبَتي إلَيْكَ أُحِبُّ بأنْ أقولَ في كلِّ شَيءٍ بِأنّي أنا اللهُ، وإذا أنظُرُ إلى نَفْسي أشاهِدُها أحْقَرَ مِنَ الطّينِ."
وفي موقع آخر يصرّح قائلاً:
"وَمِنْكُمْ مَنْ قالَ إنَّ هذا هُوَ الذي ادّعى في نَفْسِهِ ما ادّعى، فَوَاللهِ هذا لَبُهْتانٌ عَظيمٌ، وَما أنا إلاّ عَبْدٌ آمنْتُ باللهِ وآياتِهِ وَرُسُلِهِ وَمَلائِكَتِهِ وَيَشْهَدُ حينَئِذٍ لِساني وَقَلْبي وَظاهِري وَباطِني بأنَّهُ هُوَ اللهُ لا إله إلاّ هُوَ وَما سِواهُ مَخلوقٌ بِأمْرِهِ ومُنْجَعِلٌ بإرادَتِهِ لا إلهَ إلاّ هُوَ الخالِقُ الباعِثُ المُحْيي المُميت. وَلكِنْ إنّي حَدَّثْتُ نِعْمَةَ التي أنعمني الله بِجُودِهِ وَإِنْ كانَ هذا جُرْمِي فَأَنَا أَوَّلُ المُجْرِمينَ."
وتركّز هذه الآثار الكتابيّة في أسلوبها البيانيّ على جملة من الاستعارات اللّفظيّة بقصد التّعبير عن ذلك التّناقض الظّاهريّ القائم في قلب الظّاهرة التي تسمّى "بالظّهور الإِلهيّ":
"أنا صَقْرُ ساعِدِ اللهِ الغَنِيِّ أحَرِّرُ ذَوي الأجْنِحَةِ المَغْلولَةِ وأعلِّمُهُمُ الطَّيَرانَ."
(مترجم عن الفارسية)
"هذِهِ وَرَقَةٌ حَرَّكَتْها أرْيَاحُ مَشيئَةِ رَبِّكَ العَزيزِ الحَميدِ، هَلْ لَها اسْتِقْرارٌ عِنْدَ هُبوبِ أرْياحٍ عاصِفاتٍ لا وَمالِكِ الأَسْماءِ وَالصِّفاتِ بَلْ تُحَرِّكُها كَيْفَ تُريدُ..."
14
ميثاقُ اللهِ مَعَ بَني البَشَر
خرج بهاء الله من الإقامة الجبريّة أخيراً في شهر حزيران (يونية) 1877 وغادر مدينة السّجن عكّا يصحبه أفراد عائلته وتوجّه إلى "المزرعة" وهي ضاحية على بعد أميال قليلة شمال المدينة. وكما تنبّأ بهاء الله فقد سقط السّلطان عبد العزيز ولقي حتفه في انقلاب في القصر السّلطانيّ، وبدأت تكتسح العالم أرياح التّغييرات السّياسيّة لتغزو حتى التّخوم المغلقة للنّظام الإمبراطوريّ العثمانيّ. وبعد أن أمضى بهاء الله فترة قصيرة امتدّت لمدّة عامين في "المزرعة" انتقل إلى "البهجة" وهو قصر فسيح تحيط به الحدائق ويقع أيضاً في ضواحي مدينة عكّا. وكان عبد البهاء قد استأجره لوالده الجليل وأفراد عائلته الواسعة . وهكذا قضى بهاء الله سنوات حياته الاثنتي عشرة الباقية في كتابه آثاره في مجالات واسعة من القضايا الرّوحيّة والاجتماعيّة، وفي استقبال أفواج البهائيّين الزّوّار الذين سعوا للقائه قادمين من بلاد فارس ومن غيرها من البلدان متجشّمين في ذلك مصاعب جمّة.
وبدأت تبرز إلى الوجود في أنحاء الشّرقين الأدنى والأوسط نواةُ جامعة يعيش ضمن نطاقها أولئك الذين آمنوا برسالته. فأنزل بهاء الله هدايةً لهم نظاماً بيّنه أحكاماً ومؤسّساتٍ هدفه التّنفيذ العمليّ للمبادئ والتّعاليم التي جاءت بها آثاره. وخُوّلت السّلطة التّنفيذيّة إلى مجالس تنتخب ديمقراطيّاً انتخاباً يَشترك فيه كل فردٍ من أفراد الجامعة. كما اتّخذ كافّة الاحتياطات لمنع أيّ احتمال قد يسمح بقيام صفوة كهنوتيّة تستأثر بالسّلطة، بالإضافة إلى سنّ قواعد وقوانين تنظّم المشورة وتساعد على اتّخاذ القرارات الجماعيّة.
واحتلّ قلبَ هذا النّظام ما أسماه بهاء الله "بالميثاق الجديد" بين الله والبشر. فالملامح المميّزة لمرحلة بلوغ الإنسانيّة سنّ الرّشد تتمثّل في اشتراك الجنس البشريّ بأسره، ولأوّل مرّة في التّاريخ، اشتراكاً واعياً ـ وإنْ كان ضئيلاًـ في الشّعور بمعاني وحدته واتّحاده وأنّ الأرض وطن واحد للجميع. وهكذا تمهّد هذه اليقظة السّبيل لخلق صلة جديدة بين الله والبشر. وقد قال بهاء الله إنّه إذا ما آمَنَتْ شعوبُ العالَم بالسّلطة الرّوحيّة الكامنة في الهداية النّابعة من المظهر الإلهيّ لهذا العصر، فستجد في أنفسها القدرة المعنويّة على العمل والتّنفيذ، وهو الأمر الذي لا تستطيع الجهود الإنسانيّة وحدها بعثه في النّفوس. ونتيجة لهذه الصّلة الجديدة يبعث الله "خَلْقاً جديداً" ويُشرَع في العمل على تشييد حضارةٍ تحتضن الكرة الأرضيّة بأسرها. أمّا رسالة الجامعة البهائيّة فليست إلاّ شاهدةً على فعاليّة هذا الميثاق ونفوذه في
شفاء العلل والأمراض التي تزرع الفرقة والاختلاف بين بني الإنسان.
صعد بهاء الله في "البهجة" في اليوم التّاسع والعشرين من أيّار (مايو) عام 1892 وهو في سنّ الخامسة والسّبعين. وكان الأمر الذي ائتُمن عليه قبل أربعين عاماً في غياهب ذلك القعر المظلم في طهران يَهمُّ، عندما حدث صعوده، بالانطلاق حرّاً فيتخطّى الحدود التي قيّدته في البلاد الإسلاميّة التي شهدت تكوّنه ونموّه، وتترسّخ أركانه عبر القارّة الأمريكيّة في بادئ الأمر، ثمّ ينتقل إلى أوروبا، ومن هناك ينتشر في كلّ أنحاء العالم. وبهذا الإنجاز يُصبح هذا الأمر في ذاته محقِّقاً للوعد الذي جاء به الميثاق الجديد بين الله والبشر، ومبرِّراً لقيامه. والدّين البهائيّ هو الوحيد من بين الأديان العالميّة المستقلّة كلّها الذي تمكّن هو وجَامعة المؤمنين من أتباعه اجتياز السّنوات المائة الأولى الدّقيقة من حياته محافظاً على وحدته دون أن تُمَسّ، وبقي سليماً معافى من آفة الفرقة والانقسام. وتبرهن لنا الاختبارات التي مرّ بها هذا الدّين وجامعته بصورة قاطعة على صدق التّأكيدات التي صدرت عن بهاء الله بأنَّ أفراد الجنس البشريّ على اختلاف أنواعهم وتعدّدهم باستطاعتهم أن يتعلّموا كيف يعيشون سويّاً ويعملون جنباً إلى جنب كشعب واحد في وطنٍ عالميّ مشترك.
وقبل صعوده بعامين، استقبل بهاء الله في "البهجة" أحد الزّوّار الغربيّين القلائل ممّن تشرّفوا بلقائه، وهو الوحيد الذي ترك لنا سجلاًّ مكتوباً
عن تلك الخبرة الشّخصيّة والمشاعر الذّاتيّة التي كان يثيرها لقاء بهاء الله. كان اسم ذلك الزّائر ادوارد غرانفيل براون، وهو شابٌّ من جامعة كمبريدج، كان نجمه كمستشرق آخذاً بالصّعود، وقد اهتمّ أصلاً بالتّاريخ المثير للباب ومجموعة أتباعه الأبطال. وفيما يلي ما سجَّله براون تخليداً لذكرى تشرّفه بلقاء بهاء الله فكتب يقول:
"وإنّي وإنْ كنتُ متصوِّراً تصوُّراً مُبْهماً المكان الذي أنا ذاهبٌ إليه ومن أنا قَادِمٌ لرؤيته، إذ لم تُعْطَ لي إيماءة واضحة حول ذلك، إلاّ أنّه قد مرّت ثانية أو ثانيتان من الزّمن، وأخذتني الرّهبة والذّهول، قبل أن أعرف معرفة تامّة بوجود من في الغرفة. وحانت منّي التفاتة إلى الرّكن، وحيث تلتقي الأريكة بالجدار، كان يجلس هيكل عظيم تعلوه المهابة والوقار... إنّ الوجه الذي رأيته، لا أنساه ولا يمكنني وصفه، مع تلك العيون البرّاقة النّافذة التي تقرأ روح الشّخص. وتعلو جبينه الوضّاح العريض القدرة والجلال... فلم أكُ إذ ذاك في حاجة للسّؤال عن الشّخص الذي امتثلت في حضوره ووجدت نفسي منحنياً أمام مَنْ هو محطّ الولاء والمحبّة التي يَحسدُهُ عليها الملوك، ويتحسّر لنوالها عبثاً الأباطرة. وسمعت صوتاً هادئاً جليلاً يأمرني بالجلوس ثمّ استمرّ يقول: ’الحَمْدُ للهِ إِذْ وَصَلْتَ... جِئْتَ لِتَرَى مَسْجونَاً وَمَنْفِيَّاً... نَحْنُ لا نُريدُ إِلاّ إِصْلاحَ العَالَمِ وَسَعَادَةَ الأُمَمِ، وهُمْ، مَعَ ذلِكَ،
يَعْتَبِرونَنا مُثيرينَ لِلفِتْنَةِ وَالعِصْيانِ، وَمُسْتَحِقّينَ لِلْحَبْسِ وَالنَّفْي... فأَيُّ ضَرَرٍ في أَنْ يَتَّحِدَ العَالَمُ عَلى دينٍ واحدٍ وَأنْ يَكونَ الجَميعُ إخْوانَاً، وَأنْ تَسْتَحْكِمَ رَوابِطُ المَحَبَّةِ والاتِّحادِ بَيْنَ بَني البَشَرِ، وَأنْ تزولَ الاخْتلافاتُ الدِّينيَّةُ وَتُمْحى الاخْتِلافاتُ العِرْقيَّةُ؟... وَلا بُدَّ مِنْ حُصولِ هذا كُلِّهِ، فَسَتنْقَضي هذِهِ الحُروبُ المُدَمِّرَةُ وَالمُشاحَناتُ العَقيمَةُ وَسَيَأتي الصُّلْحُ الأعْظَمُ.‘"
(مترجم عن الإنجليزية)