** رشحات من بحر البلاء – بقلم: ترانة شقيقة منى
رُشّتْ رشحات من بحر البلاء على وجوهنا لنطّلع على قدرٍ قليلٍ من معاناة جمال القدم في هذا العالم.. ولكن هذا الحزن عذب.. ودواء هذا الألم هو ذكر المحبوب وذكر الأحباب والأبرار المشتعلون.. إذاً سوف أقول لكِ أنّ سُقاة كأس البلاء أخذوا أقداح التضحية بأكفّهم وأنعشوا الرب بذلك المدام.. كان والدي "يدالله محمودنژاد" ووالدتي "فرخندة محمودنژاد" وشقيقتي "منى" في السجن، والدي، ذلك الفدائي بكل ما تحمله كلمة "الفدائي" من معنىً، قال لي في لقاءنا الأخير، بينما لم يكن يعلم أيٌّ منا أنه لقاءنا الأخير في هذا العالم الناسوتي، قال لي: قولي لوالدتكِ إننّا كنّا دوماً في الحياة شركاء مع بعضنا البعض في السّراء والضّراء.. وبما أنه قدر لنا أن يحترق كلّ واحدٍ منّا بعيداً عن الآخر، إذاً نحن نجتاز مرحلة الإمتحان، إمتحان عشقنا تجاه الحق وتجاه بعضنا البعض.. هذا هو سبيلنا ومصيرنا.. كانت طلعته البهية يشّع منها نور الحق.. كانت دموع الشوق، تحرم عينّي من مشاهدة وجهه.. سألته: أبتاه، لماذا صار ثلاثة من أفراد هذه الأسرة ذات الأربعة أعضاء محبوباً لدى الحق والرابعة مطروداً من عتبته؟ أيّ ذنبٍ إقترفتْ حتى لا أستحق السجن؟.. قال بفرحه المعهود: هل تعتقدين أنكِ طليقة؟ أنتم الذين خارج السجن، أيضاً سجناء في سجنٍ أكبر.. مع كل هذه المضايقات، أنتم أيضاً مسجونات.. أهم من ذلك كله، العاشق ليس حراً قط.. بل هو أسيرٌ للعشق.. فكري فيما ينتج عما نقوم بعمله.. لا تفكري في اليوم، إنما فكري بالنتيجة.. سألته: أبتاه، أتقول أن أكون مسرورة؟ واثقة؟.. قال بكل إطمئنان ومن أعماق وجوده: كوني مطمئنة، وكوني مسرورة.. كنتُ أعلم أنني لن أقدر أن أحتضنه أو أضع رأسي على صدره في هذا العالم.. ولكن وحسبما قال هو، كنتُ أفكر فيما ينتج عن هذه السجون وهذه الإستشهادات.. ويا للأسف أن البشر لن يذوق طعم السعادة إلاّ من خلال البليات العظمى.. كنتُ مستسلمة لإرادة الحق.. بعد أربعة أيام يعني في يوم الأحد 14 مارس، أبلغوني بنبأ إستشهاد الوالد، برفقة عزيزين آخرين في الساحة الإلهية، السيدة طوبى زائرﭙور والسيد رحمة الله وفائي.. زوجي أتاني بالخبر في الساعة العاشرة صباحاً بالمنزل.. كان يبكي بكاءً شديداً.. مع أنني كنتُ أعرف نفسية والدي الإستشهادي حتى قبل إلقاء القبض عليه وبعد دخوله السجن وكنتُ أستبعد خروجه، بل وكنتُ أرى إستشهاده أما عيني، مع كل ذلك إرتعش جسمي من هول الفاجعة وقلت بصوتٍ عالٍ: يا جمال المبارك... أين أنتَ الآن يا أبتاه؟ لم أكن أشعر بنفسي.. كانت إبنتي البالغة من العمر عاماً واحداً، قد إستيقظت من صراخنا وبدأت تبكي هي أيضاً.. فجأةً تمالكتُ نفسي وقلتُ: يا أبتاه: كنتَ تقول أن أرواح الشهداء تجعل دائماً تحمّل المصائب لذويهم أسهل، ويؤيّدنهم ويشفعنّ لهم.. أين كل ذلك؟.. قسماً بقدرة الحق في الحين دخلتْ سكينة في روحي، السكينة التي كانت مخصوصة لتلك اللحظة فقط.. لم أحس في حياتي هدوءاً وإستقراراً نفسياً مثل الذي أحسسته في تلك اللحظة.. عقدتُ العزم على أن أذهب وأزور الجسد.. بعد تحمل عناءٍ كثير نجحتُ في ذلك.. وزرتُ أجساد أولئك الأعزاء الثلاثة.
*ملاحظة من المترجم، كلمة "الزيارة" بجميع مشتقاتها، في العُرف الفارسي تعني التشرف. مثلاً تشّرف شخص إلى الأماكن المقدسة، أو تشّرف شخص إلى لقاء أحد الطلعات القدسية أو تشّرف لإستلام لوح من الهياكل المقدسة. إذاً قول ترانة عندما تقول "زُرتُ أجساد أولئك الأعزاء الثلاثة" يعني هي تشّرفت برؤيتهنّ. زُرتُ: شيئاً مقدساً، بينما رأيتُ وشاهدتُ يعني رأيتُ أو شاهدتُ شيئاُ عادياً. هذا للعلم فقط "قادري".
طبعاً لم يسلمونا الأجساد.. ونقلوها إلى مكانٍ غير معلوم.. كنتُ أتمنى أن أقبّل أثر حبل المشنقة على عنق والدي.. ولكن لا أنا كنتُ قادرة على ذلك ولا كان مسموحاً أن أقترب أكثر.. كان يوم السبت من الأسبوع المقبل موعد زيارتي لوالدتي وشقيقتي.. كان لهما علم بأنهم بالإضافة للسيدة طوبى زائرﭙور، أعدموا أيضاً إثنين من الرجال.. ولكنهما لم تكونا تعرفان من هما.. ولكن جميع السجينات كنّ يحزرنّ أن أحدهما هو والدي.. أجل، كونوا شهداء على فداحة الظلم.. إنهم يقتلون رجلاً جلّ جرمه إعتقاده بوحدانية العالم الإنساني، على السلام العالمي، على تساوي حقوق الرجل والمرأة، على التعليم الصحيح والتربية السليمة، على تعديل المعيشة.. على إيمانه بحضرة بهاءالله.. يقتلونه دون أن يسمحوا له بزيارة زوجته وإبنته اللتان هما أيضاً سجينتان لديهم.. أكثر من ذلك ليس فقط لا يسمحون له بلقائهما، بل لا يطلعونهما على مقتله أيضاً.. كان هذا الحمل الثقيل ملقىً على عاتقي لأخبر عزيزتاي والدتي وشقيقتي بذلك.. كنتُ على علمٍ على قدرة والدتي وشقيقتي الروحية وإستعدادهما النفسي على سماع هذا النبأ.. ولكني لم أكن أعلم مدى سعة تأييدات الجمال المبارك.. إذ عند إخبارهما كنتُ أرتعش من الشوق اللامحدود، كنتُ أهنئهما، وهما أيضاً كانتا تجيبانني بمنتهى التسليم والرضا.. قلتُ لـ منى: والدكِ إرتحل إلى جوار الجمال المبارك.. فردتْ: أعلم، أعلم، طوبى له، يا لسعادته.. طوبى لكِ أيضأً يا منى بما طرت طيران العشاق صوب الحق.. ماذا أكتب؟ وكيف أكتب؟
زرين مقيمي والتي نالت الشهادة مع منى وثمانية أخريات، كتبت في إحدى مقالاتها "كيف يقدر قلم كسير أن يكتب عن قلوبٍ أكثر إنكساراً؟".. لو أريد أن أكتب، إن إستطعتُ أن أكتب في قالب الكلمات ما حدث فلن يبقى من الورق غير الرماد.. ولو أريد أن أقول فلن يخرج من حلقي سوى صوت الآه والأنين في فراقهم الأليم.. ولكن تلك المُحبات، مُحبات وطن المحبوب إشترين كل بلاء وألم بأرواحهنّ وألقينّ بأنفسهنّ كالحيتان العطشى إلى بحر الوصال.. إذاً بأيّ حقٍ نشكو في هذا المجال من الحزن؟.. ما دام ظهيرنا عبدالبهاء.. بل ينبغي أن نأخذ كأس الوفاء الطافح بيدٍ وحبل أحكام الله المتين وطاعة المعهد الأعلى والإنقياد له بيدٍ أخرى وفي خضّم ذلك نجول جولة الأبطال في هذا المضمار ونهب للقريب والغريب نشأةً من كأس الدهاق.. كنتُ أزور الوالدة ومنى في السجن لمدة ثلاثة أشهر تقريباً إلى أن تم إطلاق سراح الوالدة، تلك البشيرة المباركة، من السجن في يوم الإثنين 13 يونيو، بعد سجنٍ دام خمسة أشهر.. وأخبرتنا بكل ما حدث داخل السجن.. وتحدثت عن الروح الفدائية العالية الموجودة لدى جميع السجينات.. روت لكل الأمهات خواطر عن أحوال فتياتهنّ ووهبت لقلوبنا المضطربة والقلقة هدوءً وسكينة عندما تحدثت عن روعة حالات السجينات.. كانت مما قالت: كل واحدة من السجينات مستعدة للإستشهاد وأكثر من ذلك أنهنّ قد بلغنّ مقام الرضاء يعني أنهنّ راضيات بكل ما قدره الحق لهنّ.. ولكني "ترانة" كنتُ أعلم أن هذا الهدوء إنما هو الهدوء الذي يسبق العاصفة.. سوف يثور بحر البلاء وسوف تنزل سياط الإمتحان قريباً على ظهورنا.. ولكن لا ضير، فإن راكبي السفينة الحمراء وطاقمها لا يخشون طوفان البلاء وعواصف الإمتحان، إذ أنهم وجدوا في هذا السبيل وصال المحبوب.. في يوم الخميس 16 يونيو، تزّين عمود المشنقة بتعليق أجساد ستةٍ من رجال الحق.. ومرةً أخرى إشتعلت الآفاق الشموع المتّقدة لأرواحهم المجردة.. السيد عبدالحسين آزادي، السيد بهرام أفنان، السيد جمشيد سياوشي، السيد كوروش حق بين، السيد بهرام يلدائي، السيد عنايت الله إشراقي.. كانت السجينات السيدة عزت إشراقي ورؤيا إشراقي هما على التوالي زوجة السيد عنايت الله إشراقي وإبنته، والسيدة نصرت يلدائي والدة السيد بهرام يلدائي والسيدة طاهرة أرجمندي زوجة السيد جمشيد سياوشي.. كان في يوم الجمعة، في شيراز نشاطٌ غير عادي.. بدأت زيارة الأحباء إلى بيوت أهالي الشهداء.. مع باقات الزهور وعيونٍ دامعة وشفاهٍ مزينة بالبسمة، ألبسة محتشمة غير سوداوية اللون كان الأحباء الرحمانيون يزورون أقرباء الشهداء مجموعات واضعين أرواحهم على أكفّهم.. مع كل تلك المضايقات، لم يكن يوجد في بيوت أهل الشهداء مكانٍ خالٍ (لكثرة الوافدين).. جاء يوم السبت.. بعد ظهر ذلك اليوم التاريخي كان من المقرر أن نزور السجينات.. كانت الزيارة مسموحة فقط لأفراد الأسرة من الدرجة الأولى.. يعني الوالد والوالدة والأخت والأخ والزوج أو الزوجة والأولاد.. كذلك من بين هؤلاء كانوا يسمحون فقط لأربعة أشخاص.. أنا ووالدتي التي خرجت من السجن منذ خمسة أيامٍ فقط كنا رتبنا مقدمات زيارة منى.. كنّا قد إشترينا فاكهة (كان البطيخ هو الوحيد المسموح بإدخاله إلى السجن) وكنتُ جهزت لأختي غطاء رأس ومنشفة جديدة حسب طلبها.. كنتُ أتوق إلى زيارتها.. الزيارة كانت تتم في كل أسبوع مرةً واحدةً فقط.. ولا تستغرق أكثر من عدة دقائق.. ولكني كنتُ راضية بها.. ولم أكن أعلم أن هذه الزيارة هي الأخيرة.. كلما فكرتُ في ذلك اليوم، تذكرتُ وجه أختي الجميل كيف أنها تطبع قُبلة على يدها وتُلصق تلك القُبلة على الزجاج الحائل بيننا، مبديةً بتلك الطريقة حبها اللانهائي تجاهي.. وأنا أيضاً بالمقابل كنتُ أطبع قُبلةً على يدي وألصقها تماماً مقابل يدها.. مع أنه كانت فيما بين أيدينا زجاج بسماكة 2 أو 3 سنتيمترات ولكن دفء حبنا كان يصل إلى أعماق قلبينا.. ويضرم ناراً في كياننا ستبقى شرارتها مشتعلة إلى الأبد.
نعم بعد ظهر ذلك اليوم كنّا جميع أفراد العائلات السجينات المباشرين يجتمعون في بهو السجن.. ولكن لم يكن قد حان وقت زيارتنا بعد.. كنا نتشاور فيما بيننا على: هل نقول لهنّ أنهم أعدموا قبل يومين ستة من الأحباء أم لا نقول؟.. الوالدة كانت تقول:" أنا أعرف جو السجن الداخلي، وكانت ترجو كراراً أن نخبرهنّ الحقيقة، إذ أن المسئولين كانوا يطلعونهنّ على هذه الأنباء بصورة سيئة جداً، فنحن أولى أن نخبرهنّ بذلك".. أجل، كنّا في حيرةٍ من أمرنا، هل نخبر أماً بأنهم أعدموا إبنها قبل يومين؟ أو نخبر سيدةً شابة بأن زوجها قد أعدم قبل يومين؟ أو نطلع أماً وإبنتها بأن عزيزهما المسجون قد نال حريته المطلقة؟.. خلاصة القول قررنا ما يلي: أنا :"ترانة" أخبر أختي وأسرة أختر ثابت "والتي هي واحدة من الشهداء العشر" تخبرها هي، وأسرة حقيقت جو تخبر مهري حقيقت جو "والتي مازالت في السجن" وتخبر رزيتا إشراقي أسرتها بنبأ إستشهاد والدها.. وهؤلاء بدورهنّ يخبرنّ الأخريات.. أخيراً حان موعد الزيارة.. كل واحدة منّا إستقرت في كابينتها.. وعندما حصل الإتصال بدأنا نتحدث إلى السجينات.. والدتي أخذت تتكلم مع أختي.. كنتُ في عجلةٍ من أمري إذ كنتُ أخشى ضيق الوقت، أخدتُ السماعة من أمي ورحتُ أتحدث إلى منى.. منى كعادتها رفعت السماعة أولاً.. بدأت تتحدث بكل كيانها ومع شوقها وذوقها الخاص.. حدث مرات ومرات عندما كانت تقابلني أو تقابل إحدى صديقاتها أن تقول: يا إلهي، أريد أن أجعدكِ.. كانت تقول بصوتٍ تملأه الضحكة والسرور: "أهلاً وسهلا"، جئتِ وجاء الصفاء معكِ" كانت قد قالت لي مراتٍ عدة: أمنيتها أن تحتضن كل من تحبه، وتقبله بكل حرية.. كانت تعشق الإنسان وضحّت بنفسها لأجل سعادة الإنسان.. تحدثت بكل صدقها وصفاءها ومحبتها وودادها.. تحدثت حديث العشاق.. قالت: حسن، أمسرورةٌ جداً أن الوالدة بجوارك؟ أنا بدوري أجبتها بسرعةٍ فائقة، وبدون مقدمات، بدأت أتحدث إليها. قلت لها: منى يا روحي أحمل لكِ خبراً. قالت: أيّ خبر؟ قولي؟ قلت: أعدموا ستة من رجالنا. يا ليت كنتُ قادراً على أن أصور حالة منى "يعني أكتبها كأنني أصورها".. يا للأسف، القلم غير قادر، يا للأسف، يا للأسف.. إمتلأت عيناها الخضراوان بالدموع.. وضعت يدها على قلبها وسألت بصوتٍ هادي كأنها تناجي: من هم؟ ومن دون أن أعير إهتماماً بدموعها، بدأت بذكر الأسماء.. كانت طاهرة في الكابينة المجاورة واقفة، وتتحدث مع والدها.. أولاً أشرت إلى طاهرة وقلت: زوجها جمشيد.. ثم ذكرت باقي الأسماء.. كلما ذكرتُ إسماً، إغرورقت عيناها بالدموع، وضغطت يدها على قلبها أكثر وقالت مناجية: طوبى له، طوبى له.. إلى أن ذكرتُ السيدة إشراقي كآخر إسم.. عند ذلك نزلت الدموع من عينيها وقالت بكل كيانها "من صميم قلبها" طوبى لهم، طوبى لهم، يا لسعادتهم، يا لسعادتهم، صاروا ضيوف حضرة بهاءالله، يا لسعادتهم، يا لسعادتهم.. ثم علا صوتها: ترانة، قسماً بالجمال المبارك، قسماً بالحق، أن هذه الدموع، ليست دموع الحزن، إنها دموع الفرح.. حذار أن تعتقدي أنني أبكي حزناً، لا، بل أبكي من الفرح.. عندما تحدثت منى في التليفون على هذا النحو، أدركتُ أن ذهابها هي أيضاً بات وشيكاً.. إذ لم تعد تحتمل أعباء هذه الدنيا.. بناءً على ذلك قلت لها: أنتنّ أيضاً ذاهبات.. قالت: أعلم، أعلم.. ثم قالت: ترانة، لي رجاء عندكِ.. أرجو أن تقرأي لنا دعاءً حتى نذهب صوب ميدان الإعدام راقصات راكضات كما هو رغبته "جل جلاله".. قلت: على عيني، ليكن ما فيه رضاء الحق.. نحن راضيات برضائه.. ثم قالت منى: لي عندكِ رجاء آخر وهو أن تتضرعي إلى الجمال المبارك ليغفر لي، قبل إعدامي، جميع ما إقترفت من الذنوب، ثم بعد ذلك يعدموني.. يا ويلتاه، ما أصعبه هذا الرجاء.. هل أنا المذنبة أطلب لتلك الملاك الملكوتية غفراناً لذنوبها؟ فخاطبتها بعيني لا بلساني: أيّ ذنبٍ إرتكبتِ حتى يغفر لكِ الجمال المبارك؟ وكأنها قرأت نظرتي فضحكت ضحكةً منعشةً للروح.. صديقتي العزيزة، قسماً بالله إنها ليست أسطورة.. قسماً بالله إنها ليست قصة ملفقة.. منى كانت تذرف بينما تضحك، وهكذا كانت تحادثني.. كانت تعلم أنها ذاهبة، حتى قبل أن يخبروها بصدور حكم إعدامها.. لم نكن نتجرأ أن نحيي بعضنا بعضاً بتحية "الله أبهى" عند الزيارات، إذ كانوا يجلدون السجينة عقب اللقاء، أو يمنعون عنها زيارة الأهل، أو يحبسونها حبسأ إنفرادياً.. إذاً أنظروا عما كانت منى تتحدث.. كانت تعلم حق العلم أنها ستذهب.. كنتُ أحاول بكل كياني، بكل قواي، وبكل ما أوتيت من قوة، أن أتوقف عن ذرف الدموع، وأن أنظر إلى وجهها الجميل، وأن أتحدث أقل، كي تتحدث هي أكثر، حتى يبقى صدى صوتها في مسامعي.. قلتُ لها: منى يا روحي، تحدثي إلى أمي، وناولت السماعة لوالدتي.. بينما كانت والدتي تتحدث مع منى، والد طاهرة أرجمندي شملني بلطفه، وسمح لي بأن أتحدث إلى إبنته.. طاهرة قالت لي: قولي لوالدتكِ ألاّ تقلق بشأن منى، منى مازالت كما كانت، نحن أيضاً نهتم بها.. شكرتُ طاهرة وناولت السماعة إلى شقيق زوجها، الذي كان وبصعوبةٍ بالغة قد حصل على الإذن بالحضور.. في غضون ذلك قالت منى للوالدة: يا أماه، لقد أدخلوا مكانك بالزنزانة سيدةً أرمنية.. الوالدة كانت قد أومأت برأسها دون إكتراث.. بعد ذلك منى كانت قد قالت للوالدة هذه الجملة العظيمة: أماه، نحن غداً في ضيافة الجمال المبارك.. يا للعجب، يا لعظمة الروح الملهمة والمطلعة على المستقبل على هذا الشكل.. فرأيت الوالدة تنظر إلى منى مبهوتة.. كان الوقت على وشك الإنتهاء.. ما كان لنا أن نهدره.. لذلك سحبتُ السماعة سريعاً من يد أمي، وقلت لها: كنتِ مع منى خمسة أشهر، والآن من حقي أن أتحدث معها أكثر، وأيضاً قلت لـ منى نفس الكلام.. فجأةً قالت منى: هل تعلمين ما هو سبب إبتهاجي إلى هذا الحد؟ قلت: لا، قولي. قالت: السبب أنني أرى إننا من مختاري الحق.. وهل كان لي إلاّ إما أن أسكت، أو أقول: سيكون ما يرضي الحق؟.. بعد ذلك قالت منى: ترانة يا روحي، بلغي إلى جميع الأهل والأصدقاء والمعاريف تحياتي.. قبليهم جميعاً.. صورة كل واحدٍ منهم مرتسمة في ذهني.. ولكن لا أقدر أن أسميهم.. ثم أشارت إلى إبنتي نورا وقالت: أتمنى أن تربى نورا مثلما ربانا أبونا.. قلتُ في نفسي: سأنشيء وأربي نورا مثلك.. ولكني كنتُ أتمنى أن تتحدث هي أكثر.. لذا لم أقل شيئاً.. ولكن في ذلك الحين إنتهى وقت المكالمة وإنقطع الإتصال.. للمرة الأخيرة طبعنا قبلة على يدينا وألصقناها على الزجاج.. منى غادرت الكابينة بل غادرت جميع السجينات.. لا أقدر أن أقارن ذلك اليوم أو ألم ذلك اليوم مع اليوم الذي علمتُ فيه بنبأ إستشهاد والدي.. ذلك لمعرفتي أولاً بروح منى، كنتُ أعلم أنها لن تستسلم لإجحاف أولئك الظَلمَة.. وثانياً لأنني لم أطلب قط من الجمال المبارك إطلاق سراحها، إذ أنني لم أكن أطلب غير رضاه.. ولكن كان قد حدث مراتٍ عديدة أن قلتُ في نفسي: يا جمال المبارك، إن أعدموا منى، كيف أقدر أن أشاهد جسدها؟.. وكنتُ أعتقد أنني سأصاب بالجنون.. لم أكن أقدر أن أتخيل تلك الفجيعة ولو لدقيقةٍ واحدة.. وكنتُ أبعد فوراُ تلك الفكرة من رأسي.. كنتُ أعيش في إنتظار يومٍ أسمع فيه مرةً أخرى صوت وقع أقدامها، رنين ضحكاتها، مكالمتها، وأن أحتضنها مرةً أخرى وأقبلها وأشمها وأخدمها بكل وجودي وقدرتي وطاقتي، لعل وعسى أن أظهر لها قسماً ضئيلاً من محبتي اللانهائية تجاهها، وأجدها شريكة وسهيمة لي في حمل حزن إستشهاد والدي، أقص لها من معاناة الأيام التي كانت سجينة، وهي بدورها تروي لي مما تحملت من الحزن في السجن، نخدم معاً والدتنا، ولكن ترسم يد القدرة الإلهية تقديراً آخر، عندئذٍ تتفتت الآمال وتتكسر القلوب وتتحول إلى آلاف القطع.. لا يوجد علاجٌ غير الصبر والسكون والرضاء.. كل هذه الأفكار جالت في خاطري في أقل من آن.. عندما أعلمونا بنبأ إستشهاد هؤلاء العزيزات، لم أكن أصدق، وكنتُ أتمنى أن يدخل أحدهم من الباب ويقول: هذا الخبر ليس صحيحاً.. ولكني وبعد صعوباتٍ كثيرة، عندما تشرفتُ بصحبة أمي بزيارة جسد أختي وبقية العزيزات، لم أعد أنتظر قدوم أحد.. طبعت والدتي قبلة على خدود أولئك العزيزات.. وقالت: يا ليت كانت معي عيون جميع أهل العالم ليروا كيف أن عشق الجمال المبارك، والحقيقة التي تكمن في هذا الدين، قد تجليا في أجساد هؤلاء العزيزات.. أجل كان يوماً مراً، وأنا وللمرة الأخيرة ودون أن يحول الزجاج بيننا، طبعتُ قبلةً على وجه أختي الجميل والهاديء، وودعتها الوداع الأخير.. تمنيتُ من كل قلبي أن تفتح عينا منى مرةً أخرى.. وترتسم البسمة على شفاهها.. ولكني أعلم الآن وللأبد، أنها تنظر إلينا، ويعلو وجهها بسمتها الخالدة، وأن أيّ دمعةٍ أذرفها حزناً عليها هي التي تحزنها.. إذاً يا عزيزتي منى، لأجلكِ ولأجل العشق الذي كنتِ ومازلتِ تكنينه للجمال المبارك، ولسعادة بني البشر، أبتسمُ أنا، لعّل يدرك البشر السبب الذي ضحيتِ من أجله.. لا أنتِ وحدكِ بل كل العزيزات اللواتي ضحينّ بأرواحهنّ الغالية في هذا السبيل.
رُشّتْ رشحات من بحر البلاء على وجوهنا لنطّلع على قدرٍ قليلٍ من معاناة جمال القدم في هذا العالم.. ولكن هذا الحزن عذب.. ودواء هذا الألم هو ذكر المحبوب وذكر الأحباب والأبرار المشتعلون.. إذاً سوف أقول لكِ أنّ سُقاة كأس البلاء أخذوا أقداح التضحية بأكفّهم وأنعشوا الرب بذلك المدام.. كان والدي "يدالله محمودنژاد" ووالدتي "فرخندة محمودنژاد" وشقيقتي "منى" في السجن، والدي، ذلك الفدائي بكل ما تحمله كلمة "الفدائي" من معنىً، قال لي في لقاءنا الأخير، بينما لم يكن يعلم أيٌّ منا أنه لقاءنا الأخير في هذا العالم الناسوتي، قال لي: قولي لوالدتكِ إننّا كنّا دوماً في الحياة شركاء مع بعضنا البعض في السّراء والضّراء.. وبما أنه قدر لنا أن يحترق كلّ واحدٍ منّا بعيداً عن الآخر، إذاً نحن نجتاز مرحلة الإمتحان، إمتحان عشقنا تجاه الحق وتجاه بعضنا البعض.. هذا هو سبيلنا ومصيرنا.. كانت طلعته البهية يشّع منها نور الحق.. كانت دموع الشوق، تحرم عينّي من مشاهدة وجهه.. سألته: أبتاه، لماذا صار ثلاثة من أفراد هذه الأسرة ذات الأربعة أعضاء محبوباً لدى الحق والرابعة مطروداً من عتبته؟ أيّ ذنبٍ إقترفتْ حتى لا أستحق السجن؟.. قال بفرحه المعهود: هل تعتقدين أنكِ طليقة؟ أنتم الذين خارج السجن، أيضاً سجناء في سجنٍ أكبر.. مع كل هذه المضايقات، أنتم أيضاً مسجونات.. أهم من ذلك كله، العاشق ليس حراً قط.. بل هو أسيرٌ للعشق.. فكري فيما ينتج عما نقوم بعمله.. لا تفكري في اليوم، إنما فكري بالنتيجة.. سألته: أبتاه، أتقول أن أكون مسرورة؟ واثقة؟.. قال بكل إطمئنان ومن أعماق وجوده: كوني مطمئنة، وكوني مسرورة.. كنتُ أعلم أنني لن أقدر أن أحتضنه أو أضع رأسي على صدره في هذا العالم.. ولكن وحسبما قال هو، كنتُ أفكر فيما ينتج عن هذه السجون وهذه الإستشهادات.. ويا للأسف أن البشر لن يذوق طعم السعادة إلاّ من خلال البليات العظمى.. كنتُ مستسلمة لإرادة الحق.. بعد أربعة أيام يعني في يوم الأحد 14 مارس، أبلغوني بنبأ إستشهاد الوالد، برفقة عزيزين آخرين في الساحة الإلهية، السيدة طوبى زائرﭙور والسيد رحمة الله وفائي.. زوجي أتاني بالخبر في الساعة العاشرة صباحاً بالمنزل.. كان يبكي بكاءً شديداً.. مع أنني كنتُ أعرف نفسية والدي الإستشهادي حتى قبل إلقاء القبض عليه وبعد دخوله السجن وكنتُ أستبعد خروجه، بل وكنتُ أرى إستشهاده أما عيني، مع كل ذلك إرتعش جسمي من هول الفاجعة وقلت بصوتٍ عالٍ: يا جمال المبارك... أين أنتَ الآن يا أبتاه؟ لم أكن أشعر بنفسي.. كانت إبنتي البالغة من العمر عاماً واحداً، قد إستيقظت من صراخنا وبدأت تبكي هي أيضاً.. فجأةً تمالكتُ نفسي وقلتُ: يا أبتاه: كنتَ تقول أن أرواح الشهداء تجعل دائماً تحمّل المصائب لذويهم أسهل، ويؤيّدنهم ويشفعنّ لهم.. أين كل ذلك؟.. قسماً بقدرة الحق في الحين دخلتْ سكينة في روحي، السكينة التي كانت مخصوصة لتلك اللحظة فقط.. لم أحس في حياتي هدوءاً وإستقراراً نفسياً مثل الذي أحسسته في تلك اللحظة.. عقدتُ العزم على أن أذهب وأزور الجسد.. بعد تحمل عناءٍ كثير نجحتُ في ذلك.. وزرتُ أجساد أولئك الأعزاء الثلاثة.
*ملاحظة من المترجم، كلمة "الزيارة" بجميع مشتقاتها، في العُرف الفارسي تعني التشرف. مثلاً تشّرف شخص إلى الأماكن المقدسة، أو تشّرف شخص إلى لقاء أحد الطلعات القدسية أو تشّرف لإستلام لوح من الهياكل المقدسة. إذاً قول ترانة عندما تقول "زُرتُ أجساد أولئك الأعزاء الثلاثة" يعني هي تشّرفت برؤيتهنّ. زُرتُ: شيئاً مقدساً، بينما رأيتُ وشاهدتُ يعني رأيتُ أو شاهدتُ شيئاُ عادياً. هذا للعلم فقط "قادري".
طبعاً لم يسلمونا الأجساد.. ونقلوها إلى مكانٍ غير معلوم.. كنتُ أتمنى أن أقبّل أثر حبل المشنقة على عنق والدي.. ولكن لا أنا كنتُ قادرة على ذلك ولا كان مسموحاً أن أقترب أكثر.. كان يوم السبت من الأسبوع المقبل موعد زيارتي لوالدتي وشقيقتي.. كان لهما علم بأنهم بالإضافة للسيدة طوبى زائرﭙور، أعدموا أيضاً إثنين من الرجال.. ولكنهما لم تكونا تعرفان من هما.. ولكن جميع السجينات كنّ يحزرنّ أن أحدهما هو والدي.. أجل، كونوا شهداء على فداحة الظلم.. إنهم يقتلون رجلاً جلّ جرمه إعتقاده بوحدانية العالم الإنساني، على السلام العالمي، على تساوي حقوق الرجل والمرأة، على التعليم الصحيح والتربية السليمة، على تعديل المعيشة.. على إيمانه بحضرة بهاءالله.. يقتلونه دون أن يسمحوا له بزيارة زوجته وإبنته اللتان هما أيضاً سجينتان لديهم.. أكثر من ذلك ليس فقط لا يسمحون له بلقائهما، بل لا يطلعونهما على مقتله أيضاً.. كان هذا الحمل الثقيل ملقىً على عاتقي لأخبر عزيزتاي والدتي وشقيقتي بذلك.. كنتُ على علمٍ على قدرة والدتي وشقيقتي الروحية وإستعدادهما النفسي على سماع هذا النبأ.. ولكني لم أكن أعلم مدى سعة تأييدات الجمال المبارك.. إذ عند إخبارهما كنتُ أرتعش من الشوق اللامحدود، كنتُ أهنئهما، وهما أيضاً كانتا تجيبانني بمنتهى التسليم والرضا.. قلتُ لـ منى: والدكِ إرتحل إلى جوار الجمال المبارك.. فردتْ: أعلم، أعلم، طوبى له، يا لسعادته.. طوبى لكِ أيضأً يا منى بما طرت طيران العشاق صوب الحق.. ماذا أكتب؟ وكيف أكتب؟
زرين مقيمي والتي نالت الشهادة مع منى وثمانية أخريات، كتبت في إحدى مقالاتها "كيف يقدر قلم كسير أن يكتب عن قلوبٍ أكثر إنكساراً؟".. لو أريد أن أكتب، إن إستطعتُ أن أكتب في قالب الكلمات ما حدث فلن يبقى من الورق غير الرماد.. ولو أريد أن أقول فلن يخرج من حلقي سوى صوت الآه والأنين في فراقهم الأليم.. ولكن تلك المُحبات، مُحبات وطن المحبوب إشترين كل بلاء وألم بأرواحهنّ وألقينّ بأنفسهنّ كالحيتان العطشى إلى بحر الوصال.. إذاً بأيّ حقٍ نشكو في هذا المجال من الحزن؟.. ما دام ظهيرنا عبدالبهاء.. بل ينبغي أن نأخذ كأس الوفاء الطافح بيدٍ وحبل أحكام الله المتين وطاعة المعهد الأعلى والإنقياد له بيدٍ أخرى وفي خضّم ذلك نجول جولة الأبطال في هذا المضمار ونهب للقريب والغريب نشأةً من كأس الدهاق.. كنتُ أزور الوالدة ومنى في السجن لمدة ثلاثة أشهر تقريباً إلى أن تم إطلاق سراح الوالدة، تلك البشيرة المباركة، من السجن في يوم الإثنين 13 يونيو، بعد سجنٍ دام خمسة أشهر.. وأخبرتنا بكل ما حدث داخل السجن.. وتحدثت عن الروح الفدائية العالية الموجودة لدى جميع السجينات.. روت لكل الأمهات خواطر عن أحوال فتياتهنّ ووهبت لقلوبنا المضطربة والقلقة هدوءً وسكينة عندما تحدثت عن روعة حالات السجينات.. كانت مما قالت: كل واحدة من السجينات مستعدة للإستشهاد وأكثر من ذلك أنهنّ قد بلغنّ مقام الرضاء يعني أنهنّ راضيات بكل ما قدره الحق لهنّ.. ولكني "ترانة" كنتُ أعلم أن هذا الهدوء إنما هو الهدوء الذي يسبق العاصفة.. سوف يثور بحر البلاء وسوف تنزل سياط الإمتحان قريباً على ظهورنا.. ولكن لا ضير، فإن راكبي السفينة الحمراء وطاقمها لا يخشون طوفان البلاء وعواصف الإمتحان، إذ أنهم وجدوا في هذا السبيل وصال المحبوب.. في يوم الخميس 16 يونيو، تزّين عمود المشنقة بتعليق أجساد ستةٍ من رجال الحق.. ومرةً أخرى إشتعلت الآفاق الشموع المتّقدة لأرواحهم المجردة.. السيد عبدالحسين آزادي، السيد بهرام أفنان، السيد جمشيد سياوشي، السيد كوروش حق بين، السيد بهرام يلدائي، السيد عنايت الله إشراقي.. كانت السجينات السيدة عزت إشراقي ورؤيا إشراقي هما على التوالي زوجة السيد عنايت الله إشراقي وإبنته، والسيدة نصرت يلدائي والدة السيد بهرام يلدائي والسيدة طاهرة أرجمندي زوجة السيد جمشيد سياوشي.. كان في يوم الجمعة، في شيراز نشاطٌ غير عادي.. بدأت زيارة الأحباء إلى بيوت أهالي الشهداء.. مع باقات الزهور وعيونٍ دامعة وشفاهٍ مزينة بالبسمة، ألبسة محتشمة غير سوداوية اللون كان الأحباء الرحمانيون يزورون أقرباء الشهداء مجموعات واضعين أرواحهم على أكفّهم.. مع كل تلك المضايقات، لم يكن يوجد في بيوت أهل الشهداء مكانٍ خالٍ (لكثرة الوافدين).. جاء يوم السبت.. بعد ظهر ذلك اليوم التاريخي كان من المقرر أن نزور السجينات.. كانت الزيارة مسموحة فقط لأفراد الأسرة من الدرجة الأولى.. يعني الوالد والوالدة والأخت والأخ والزوج أو الزوجة والأولاد.. كذلك من بين هؤلاء كانوا يسمحون فقط لأربعة أشخاص.. أنا ووالدتي التي خرجت من السجن منذ خمسة أيامٍ فقط كنا رتبنا مقدمات زيارة منى.. كنّا قد إشترينا فاكهة (كان البطيخ هو الوحيد المسموح بإدخاله إلى السجن) وكنتُ جهزت لأختي غطاء رأس ومنشفة جديدة حسب طلبها.. كنتُ أتوق إلى زيارتها.. الزيارة كانت تتم في كل أسبوع مرةً واحدةً فقط.. ولا تستغرق أكثر من عدة دقائق.. ولكني كنتُ راضية بها.. ولم أكن أعلم أن هذه الزيارة هي الأخيرة.. كلما فكرتُ في ذلك اليوم، تذكرتُ وجه أختي الجميل كيف أنها تطبع قُبلة على يدها وتُلصق تلك القُبلة على الزجاج الحائل بيننا، مبديةً بتلك الطريقة حبها اللانهائي تجاهي.. وأنا أيضاً بالمقابل كنتُ أطبع قُبلةً على يدي وألصقها تماماً مقابل يدها.. مع أنه كانت فيما بين أيدينا زجاج بسماكة 2 أو 3 سنتيمترات ولكن دفء حبنا كان يصل إلى أعماق قلبينا.. ويضرم ناراً في كياننا ستبقى شرارتها مشتعلة إلى الأبد.
نعم بعد ظهر ذلك اليوم كنّا جميع أفراد العائلات السجينات المباشرين يجتمعون في بهو السجن.. ولكن لم يكن قد حان وقت زيارتنا بعد.. كنا نتشاور فيما بيننا على: هل نقول لهنّ أنهم أعدموا قبل يومين ستة من الأحباء أم لا نقول؟.. الوالدة كانت تقول:" أنا أعرف جو السجن الداخلي، وكانت ترجو كراراً أن نخبرهنّ الحقيقة، إذ أن المسئولين كانوا يطلعونهنّ على هذه الأنباء بصورة سيئة جداً، فنحن أولى أن نخبرهنّ بذلك".. أجل، كنّا في حيرةٍ من أمرنا، هل نخبر أماً بأنهم أعدموا إبنها قبل يومين؟ أو نخبر سيدةً شابة بأن زوجها قد أعدم قبل يومين؟ أو نطلع أماً وإبنتها بأن عزيزهما المسجون قد نال حريته المطلقة؟.. خلاصة القول قررنا ما يلي: أنا :"ترانة" أخبر أختي وأسرة أختر ثابت "والتي هي واحدة من الشهداء العشر" تخبرها هي، وأسرة حقيقت جو تخبر مهري حقيقت جو "والتي مازالت في السجن" وتخبر رزيتا إشراقي أسرتها بنبأ إستشهاد والدها.. وهؤلاء بدورهنّ يخبرنّ الأخريات.. أخيراً حان موعد الزيارة.. كل واحدة منّا إستقرت في كابينتها.. وعندما حصل الإتصال بدأنا نتحدث إلى السجينات.. والدتي أخذت تتكلم مع أختي.. كنتُ في عجلةٍ من أمري إذ كنتُ أخشى ضيق الوقت، أخدتُ السماعة من أمي ورحتُ أتحدث إلى منى.. منى كعادتها رفعت السماعة أولاً.. بدأت تتحدث بكل كيانها ومع شوقها وذوقها الخاص.. حدث مرات ومرات عندما كانت تقابلني أو تقابل إحدى صديقاتها أن تقول: يا إلهي، أريد أن أجعدكِ.. كانت تقول بصوتٍ تملأه الضحكة والسرور: "أهلاً وسهلا"، جئتِ وجاء الصفاء معكِ" كانت قد قالت لي مراتٍ عدة: أمنيتها أن تحتضن كل من تحبه، وتقبله بكل حرية.. كانت تعشق الإنسان وضحّت بنفسها لأجل سعادة الإنسان.. تحدثت بكل صدقها وصفاءها ومحبتها وودادها.. تحدثت حديث العشاق.. قالت: حسن، أمسرورةٌ جداً أن الوالدة بجوارك؟ أنا بدوري أجبتها بسرعةٍ فائقة، وبدون مقدمات، بدأت أتحدث إليها. قلت لها: منى يا روحي أحمل لكِ خبراً. قالت: أيّ خبر؟ قولي؟ قلت: أعدموا ستة من رجالنا. يا ليت كنتُ قادراً على أن أصور حالة منى "يعني أكتبها كأنني أصورها".. يا للأسف، القلم غير قادر، يا للأسف، يا للأسف.. إمتلأت عيناها الخضراوان بالدموع.. وضعت يدها على قلبها وسألت بصوتٍ هادي كأنها تناجي: من هم؟ ومن دون أن أعير إهتماماً بدموعها، بدأت بذكر الأسماء.. كانت طاهرة في الكابينة المجاورة واقفة، وتتحدث مع والدها.. أولاً أشرت إلى طاهرة وقلت: زوجها جمشيد.. ثم ذكرت باقي الأسماء.. كلما ذكرتُ إسماً، إغرورقت عيناها بالدموع، وضغطت يدها على قلبها أكثر وقالت مناجية: طوبى له، طوبى له.. إلى أن ذكرتُ السيدة إشراقي كآخر إسم.. عند ذلك نزلت الدموع من عينيها وقالت بكل كيانها "من صميم قلبها" طوبى لهم، طوبى لهم، يا لسعادتهم، يا لسعادتهم، صاروا ضيوف حضرة بهاءالله، يا لسعادتهم، يا لسعادتهم.. ثم علا صوتها: ترانة، قسماً بالجمال المبارك، قسماً بالحق، أن هذه الدموع، ليست دموع الحزن، إنها دموع الفرح.. حذار أن تعتقدي أنني أبكي حزناً، لا، بل أبكي من الفرح.. عندما تحدثت منى في التليفون على هذا النحو، أدركتُ أن ذهابها هي أيضاً بات وشيكاً.. إذ لم تعد تحتمل أعباء هذه الدنيا.. بناءً على ذلك قلت لها: أنتنّ أيضاً ذاهبات.. قالت: أعلم، أعلم.. ثم قالت: ترانة، لي رجاء عندكِ.. أرجو أن تقرأي لنا دعاءً حتى نذهب صوب ميدان الإعدام راقصات راكضات كما هو رغبته "جل جلاله".. قلت: على عيني، ليكن ما فيه رضاء الحق.. نحن راضيات برضائه.. ثم قالت منى: لي عندكِ رجاء آخر وهو أن تتضرعي إلى الجمال المبارك ليغفر لي، قبل إعدامي، جميع ما إقترفت من الذنوب، ثم بعد ذلك يعدموني.. يا ويلتاه، ما أصعبه هذا الرجاء.. هل أنا المذنبة أطلب لتلك الملاك الملكوتية غفراناً لذنوبها؟ فخاطبتها بعيني لا بلساني: أيّ ذنبٍ إرتكبتِ حتى يغفر لكِ الجمال المبارك؟ وكأنها قرأت نظرتي فضحكت ضحكةً منعشةً للروح.. صديقتي العزيزة، قسماً بالله إنها ليست أسطورة.. قسماً بالله إنها ليست قصة ملفقة.. منى كانت تذرف بينما تضحك، وهكذا كانت تحادثني.. كانت تعلم أنها ذاهبة، حتى قبل أن يخبروها بصدور حكم إعدامها.. لم نكن نتجرأ أن نحيي بعضنا بعضاً بتحية "الله أبهى" عند الزيارات، إذ كانوا يجلدون السجينة عقب اللقاء، أو يمنعون عنها زيارة الأهل، أو يحبسونها حبسأ إنفرادياً.. إذاً أنظروا عما كانت منى تتحدث.. كانت تعلم حق العلم أنها ستذهب.. كنتُ أحاول بكل كياني، بكل قواي، وبكل ما أوتيت من قوة، أن أتوقف عن ذرف الدموع، وأن أنظر إلى وجهها الجميل، وأن أتحدث أقل، كي تتحدث هي أكثر، حتى يبقى صدى صوتها في مسامعي.. قلتُ لها: منى يا روحي، تحدثي إلى أمي، وناولت السماعة لوالدتي.. بينما كانت والدتي تتحدث مع منى، والد طاهرة أرجمندي شملني بلطفه، وسمح لي بأن أتحدث إلى إبنته.. طاهرة قالت لي: قولي لوالدتكِ ألاّ تقلق بشأن منى، منى مازالت كما كانت، نحن أيضاً نهتم بها.. شكرتُ طاهرة وناولت السماعة إلى شقيق زوجها، الذي كان وبصعوبةٍ بالغة قد حصل على الإذن بالحضور.. في غضون ذلك قالت منى للوالدة: يا أماه، لقد أدخلوا مكانك بالزنزانة سيدةً أرمنية.. الوالدة كانت قد أومأت برأسها دون إكتراث.. بعد ذلك منى كانت قد قالت للوالدة هذه الجملة العظيمة: أماه، نحن غداً في ضيافة الجمال المبارك.. يا للعجب، يا لعظمة الروح الملهمة والمطلعة على المستقبل على هذا الشكل.. فرأيت الوالدة تنظر إلى منى مبهوتة.. كان الوقت على وشك الإنتهاء.. ما كان لنا أن نهدره.. لذلك سحبتُ السماعة سريعاً من يد أمي، وقلت لها: كنتِ مع منى خمسة أشهر، والآن من حقي أن أتحدث معها أكثر، وأيضاً قلت لـ منى نفس الكلام.. فجأةً قالت منى: هل تعلمين ما هو سبب إبتهاجي إلى هذا الحد؟ قلت: لا، قولي. قالت: السبب أنني أرى إننا من مختاري الحق.. وهل كان لي إلاّ إما أن أسكت، أو أقول: سيكون ما يرضي الحق؟.. بعد ذلك قالت منى: ترانة يا روحي، بلغي إلى جميع الأهل والأصدقاء والمعاريف تحياتي.. قبليهم جميعاً.. صورة كل واحدٍ منهم مرتسمة في ذهني.. ولكن لا أقدر أن أسميهم.. ثم أشارت إلى إبنتي نورا وقالت: أتمنى أن تربى نورا مثلما ربانا أبونا.. قلتُ في نفسي: سأنشيء وأربي نورا مثلك.. ولكني كنتُ أتمنى أن تتحدث هي أكثر.. لذا لم أقل شيئاً.. ولكن في ذلك الحين إنتهى وقت المكالمة وإنقطع الإتصال.. للمرة الأخيرة طبعنا قبلة على يدينا وألصقناها على الزجاج.. منى غادرت الكابينة بل غادرت جميع السجينات.. لا أقدر أن أقارن ذلك اليوم أو ألم ذلك اليوم مع اليوم الذي علمتُ فيه بنبأ إستشهاد والدي.. ذلك لمعرفتي أولاً بروح منى، كنتُ أعلم أنها لن تستسلم لإجحاف أولئك الظَلمَة.. وثانياً لأنني لم أطلب قط من الجمال المبارك إطلاق سراحها، إذ أنني لم أكن أطلب غير رضاه.. ولكن كان قد حدث مراتٍ عديدة أن قلتُ في نفسي: يا جمال المبارك، إن أعدموا منى، كيف أقدر أن أشاهد جسدها؟.. وكنتُ أعتقد أنني سأصاب بالجنون.. لم أكن أقدر أن أتخيل تلك الفجيعة ولو لدقيقةٍ واحدة.. وكنتُ أبعد فوراُ تلك الفكرة من رأسي.. كنتُ أعيش في إنتظار يومٍ أسمع فيه مرةً أخرى صوت وقع أقدامها، رنين ضحكاتها، مكالمتها، وأن أحتضنها مرةً أخرى وأقبلها وأشمها وأخدمها بكل وجودي وقدرتي وطاقتي، لعل وعسى أن أظهر لها قسماً ضئيلاً من محبتي اللانهائية تجاهها، وأجدها شريكة وسهيمة لي في حمل حزن إستشهاد والدي، أقص لها من معاناة الأيام التي كانت سجينة، وهي بدورها تروي لي مما تحملت من الحزن في السجن، نخدم معاً والدتنا، ولكن ترسم يد القدرة الإلهية تقديراً آخر، عندئذٍ تتفتت الآمال وتتكسر القلوب وتتحول إلى آلاف القطع.. لا يوجد علاجٌ غير الصبر والسكون والرضاء.. كل هذه الأفكار جالت في خاطري في أقل من آن.. عندما أعلمونا بنبأ إستشهاد هؤلاء العزيزات، لم أكن أصدق، وكنتُ أتمنى أن يدخل أحدهم من الباب ويقول: هذا الخبر ليس صحيحاً.. ولكني وبعد صعوباتٍ كثيرة، عندما تشرفتُ بصحبة أمي بزيارة جسد أختي وبقية العزيزات، لم أعد أنتظر قدوم أحد.. طبعت والدتي قبلة على خدود أولئك العزيزات.. وقالت: يا ليت كانت معي عيون جميع أهل العالم ليروا كيف أن عشق الجمال المبارك، والحقيقة التي تكمن في هذا الدين، قد تجليا في أجساد هؤلاء العزيزات.. أجل كان يوماً مراً، وأنا وللمرة الأخيرة ودون أن يحول الزجاج بيننا، طبعتُ قبلةً على وجه أختي الجميل والهاديء، وودعتها الوداع الأخير.. تمنيتُ من كل قلبي أن تفتح عينا منى مرةً أخرى.. وترتسم البسمة على شفاهها.. ولكني أعلم الآن وللأبد، أنها تنظر إلينا، ويعلو وجهها بسمتها الخالدة، وأن أيّ دمعةٍ أذرفها حزناً عليها هي التي تحزنها.. إذاً يا عزيزتي منى، لأجلكِ ولأجل العشق الذي كنتِ ومازلتِ تكنينه للجمال المبارك، ولسعادة بني البشر، أبتسمُ أنا، لعّل يدرك البشر السبب الذي ضحيتِ من أجله.. لا أنتِ وحدكِ بل كل العزيزات اللواتي ضحينّ بأرواحهنّ الغالية في هذا السبيل.