الجمال والكمال
صفته وصفاته
غادر حضرة عبد البهاء إيران منفيا إلى العراق مع والده طفلا لم يتجاوز التاسعة من عمرة وخلف وراءه ارض الأجداد والثروة والجاه وذكريات الطفولة فوق روابي وجبال مازندران بعد أن عاش فترة لم تكن طويلة لكنه قاسى خلالها الكثير من المتاعب والمصاعب وتكدرت نفسه الغضة بصورة مؤلمة شديدة القسوة ظل يعانى من ذكرياتها طوال حياتة0
وفى العراق قضى عشر سنوات تفتحت فيها مداركه ونمت مواهبه وأصبح شابا فتيا نضرا حسن الشكل جدا حتى انه اشتهر بأنه أجمل فتيان بغداد وكانت نزهته وتسليته الوحيدة ركوب الخيل فقد كان مغرما بها0
" سألت الكونتيسة كنفارو عباس أفندي عما كان شديد التعلق به حين الصبا فأجاب قائلا " كنت شديد الولوع بسماع وقراءة ألواح حضرة الباب وكان من عاداتي حفظها لفظيا ومعنويا بهذا كان غرامي في أيام الصغر "
ولما سُئل هل طلب تسلية أجاب " ركبت الخيل في بغداد وكان عزمي الاصطياد فجمعتني الظروف على جماعه من الصيادين ولكني لما رأيتهم يقتلون الطيور والحيوانات انتبهت إلى أن ذلك حرام وخطر بذهني أن اقتنص أرواح العباد لتقريبها إلى الله أولى من اقتناص الحيوان وعلى ذلك صممت وهذا أول وآخر تجاربي في الصيد وهذا كل ما أخبرك به عن نفسي وهو أنى ابحث عن الأرواح لإرشادها إلى الصراط المستقيم000 وكانوا يعجبون بعلمه وذكائه حتى عرف بالشاب الحكيم وكانوا يسألونه – من علمك ومن أين تتلقى هذه الأشياء التي تلقيها – فكان الجواب الذي يجيب به ( أن أباه هو الذي علمه)" (1)
وكتب جناب النبيل فى مذكراته الغير منشورة " تفضل حضرة بهاء الله قائلا : - " كان دائما يزورني إمام اسمه عبد السلام كان يدرس في مدرسه شيخ عبد القادر ، اتفقت معه أن يلتقي صباحا وعصرا مع غصن الأعظم ويتباحث معه في المسائل العلمية .
فقال احد المرات " منذ ثلاثين عاما وأنا أسعى لتحصيل العلوم ورغم ذلك حينما يسألني شخص يجب أن ارجع إلى الكتب ولكن ابنكم يتكلم ببيانات لم يصل تفكيري إليها فان فطرة الغصن الأعظم تحكي عن فطره الله فهو يدرك العلوم والصنائع بسرعة في حين يعجز عنها الآخرون "
كان حضرة عبد البهاء حصيفا بليغا حاضر البديهة واسع المعرفة, إذا تحدث سحر سامعيه ببيانه, وبهرهم بمنطقه ومقاله, أسرهم بمحبته ودماثة خلقه, فمجده كل من حظي بالتشرف بلقائه, واعترف له أهل الشرق والغرب بأنه سر من أسرار الله وآية من آيات إبداعه0
كما كانت حياة عبد البهاء بصفته المثل الأعلى لتعاليم جمال الأقدس الأبهى مشحونة في كل ثناياه بثمرة التعاليم المباركة …. أعد العبودية أعلىَ مقام له, وقام بتعليم هذه الصفة الجليلة عمليا, شفهيا و كتابيا.
يتفضل فيقول : -
" أن الجمال المبارك لم يربيني كي أعيش حياتي الدنيوية في راحة ونعمة وسرور.. فالجمال المبارك قضى حياته في السجن كي تنبت في طينتنا النية الصادقة لخدمة أمر الله, فلم يكن في حياة حضرة عبد البهاء أثر أو إشارة للكمال بل كل ما كان هو الكمال المحض, فكان يتفضل أن الجمال المبارك علمني بأن أحمل حمل الآخرين لا أن أضع أثقالي على أكتافهم." (2)
" كان ربعة القوام جليل المنظر سامي الهيئة يلبس قفطانا ابيض فوق الجبة وعلى رأسه العمامة قوى البنية مضيء الطلعة يتدلى شعره على كتفيه وتارة يعقصه تحت عمامته اقنى الأنف أشمه تلوح على وجهه علامات الوداعة خفيف الشارب واللحية ذا عينين زرقاوتين واسعتين مع نظر ثاقب معتدل كالسهم, عريض الجبهة وضاح الجبين تظهر على جبهته العريضة أثار الغضون التي تدل على ما قاساه في حياته من المصاعب والمتاعب في سبيل إرشاد الإنسانية الضالة في بيداء الجهالة والانقسام, يتدفق البشر والحنان من محياة وتلوح الشهامة والنبل على سيماه بحيث يشعر كل من واجهه بهيبة عظيمة وجلال باهر, شدة الذكاء وتوقد الخاطر وحدة الفؤاد ظاهره مشرقة من طلعته ومن كلماته وحركاته0 قواه العقلية ومزاياه الادراكية وهبية لا كسبية عظيم الإخلاص نقى الضمير ابتسامته تسحر اللب وتجذب إليه القلوب يمشى بخطى واسعة كأنه ملك عظيم أو راع بار في وسط رعيته بل أسد رابض في عرينه وبالاختصار فقد كان قويا مقتدرا متأنيا في عمله لطيفا في مَعْشرَةه لينا في خطابه كأنه والد حنون في وسط أولاده, وحركاته ومقابلاته وجلوسه هي مظاهر القوة والشهامة والحرية والاقتدار, فصيح اللسان عذب البيان مطيل الصمت والتفكير في مواضعه0 (3)
وكتب السيد ثورنتون شيس في وصفه لعبد البهاء في السجن سنة 1907 فقال - " كانت خطواته وهيئته خطوات ملك وهيئته 0 وان الأثر الذي انطبع على قلبي هو مظهره القوى الملكي الفذ في أعظم ما
يكون من المسلك الحلو الكريم0 انه يُظهُر المحبة لكل إنسان, ويتقرب إلى الجميع, ويدعو الجميع, ويحب أن يخدمهم جميعا حتى في اقل الأشياء " (4)
وصف البروفيسور برا ون الذي زار عكاء سنة 1890 م حضرة عبد البهاء وصفا بليغا كما رآه في ذلك الوقت بمقدمة كتابه ( قصة السائح) فقال: - " لم أر
أحدا في منظره أكثر من هذا الرجل المستقيم القامة القوى التركيب المعتدل كالسهم هذا الذي يلبس العمامة والملابس البيضاء, والشعر الأسود المتدلي على كتفيه العريض الجبهة الوضاء الجبين الدال على شدة الذكاء وصدق الفراسة ذا الإرادة الثابتة والعينين اللتين كعيني الصقر الدالتين مع ذلك على حسن الطوية 0 هذه هي أول رؤياي للمولى عباس أفندي كما تسميه البهائية وبمحادثته تلت هذه الرؤيا وقع اعتباره في نفسي وارتفعت منزلته عندى0" (5)
* كتب معلق على رحلات حضرة عبد البهاء إلى أمريكا فقال: " حينما زار حضرة عبد البهاء هذه البلاد لأول مرة سنة 1912م وجد جمهورا كبيرا محبا ينتظرونه ليحيوه بأشخاصهم وليتسلموا من شفتيه رسالته في المحبة والروحانية000 ومن وراء الكلمات المنطوقة كان هناك شئ من شخصيته لا يمكن وصفه, وكان هذا الشيء يؤثر تأثيرا عميقا في كل من فاز بمحضره, فرأسه الذي يشبه القبة, ولحيته الأبوية, وعيناه اللتان كانتا تبدوان وكأنهما تنظران إلى ما وراء الزمن والحس, وصوته الواضح النفاذ رغم انخفاضه وتواضعه الخالص, ومحبته الغلابة, وفوق كل شئ ذلك الإحساس بالقوة يخالطها اللطف الذي زود كيانه كله بجلال نادر نابع من الغبطة الروحية الذي نأى به عن الناس من ناحية وقربه من ناحية أخرى إلى أوضع النفوس, كل ذلك وكثير مما لا يمكن تعريفه خلق عند العديدين من أصدقائه ذكريات لا يمكن أن تمحى, ذكريات نفيسة لا يمكن أن توصف بوصف " 0 (6)
* وكتب الدكتور شين أستاذ تفسير الكتاب المقدس في أكسفورد في كتابه " الوئام بين الأجناس والأديان" فقال: -
" إن عبد البهاء يذكره بالقديس فرنسيس أسيسى, إلا أن القديس فرنسيس " كان يحتقر علم البشر " ومن ثم " كان عبد البهاء رجلا أكمل " 00 وقال أيضا " لن يستطيع أحد على مدى ما تستطيع ملاحظاتي أن تسجل – أن يكون مظهرا للكمال كما كان عبد البهاء, وهو يخبرنا بأنه صوره منعكسة من بهاء الله " (7)
* ويقول الدكتور جون أسلمنت في كتابة بهاء الله والعصر الجديد: -
" وكانت خدماته دائما موجهة إلى الذين هم في حاجة شديدة إليها 0 فكان صبره الجميل ولطفه وبشاشته ودماثة أخلاقه قد جعلته نعمة عظيمة على الجميع"0
" وكما هو الحال عند حضرة بهاء الله وحضرة الأعلى وسائر الأنبياء والمرسلين في قدرتهم عمل المعجزات, كان لحضرة عبد البهاء القدرة نفسها, خاصة في شفاء المرضى, لكن أخبار هذه المعجزات تبقى للتداول بين البهائيين فقط, وليس لإثبات صحة الدين0" أما في صور عبد البهاء المشهورة المأخوذة
في باريس فان القوة والذكاء والأرادة تبدو متساوقة مع تواضع جم وحزن بالغ صادر عن قلب يتألم ويتوجع لعالم شقي بائس "0 (
كان يحب الناس ويسعد بقربهم وبخدمتهم وكان يصرح دائما :
" إن منزلي منزل السرور والانشراح " وحقيقة كان الأمر كما يقول, فقد كان يبتهج بجمعه الكثيرين من الناس من أجناس مختلفة وألوان واديان مختلفة بالمحبة والوفاق التام على مائدة كرمه 0 (9)
"أما احتياجات حضرة عبد البهاء فقد كانت قليلة وكان يشتغل مبكرا والى ساعة متأخرة ويكفيه غداءان بسيطان في اليوم " (10)
وكانت عاداته في تناول طعامه عجيبة تلفت النظر وتسهل ملاحظتها وفى اعتقادي أن تلك العادات ارتبطت بقوة بحياة وتاريخ حضرة الباب وحضرة بهاء الله 0 فكثيرا ما كان حضرته يتذكرهما ويسترجع المحن والآلام التي قاساياها والأيام الطوال التي لم يجدا خلالها من لقمة تسد رمقهما أو قنديل يبدد ظلمة لياليهما فكان طعامه قليلا00 في الصباح كان يفطر الخبز والجبن والشاي ويكتفي في العشاء بقطعة خبز وفنجان حليب, ويتفضل " أليس هذا كافيا؟ ألم يمض حضرة بهاء الله في السليمانية أغلب أوقاته بهذا فقط ؟ وكان في أغلب الأوقات يقوم بخدمة الآخرين على المائدة وأثناء الأكل يتفضل بالرد على أسئلة الحاضرين وإيضاح ما يودون معرفته من بيانات وعندما كان يبدأ الجميع بالأكل يبدأ حضرته بعمل لقيمات صغيرة بحجم الجوز وكان يمضغها ببطء لم يكن حضرته يميل إلى أكل اللحوم في حين كان يميل إلى تناول فاكهة اليوسفي والليمون الحلو, وفي أغلب الأوقات يأكل الخبز والجبن والحليب, ويحب من الخضراوات الريحان والنعناع والترخان والزيتون0 بصفة عامة كان قليل الأكل, ويشرب الشاي ساخنا جدا, كما كان نومه قليلا.(11)
" قبل سفر حضرة عبد البهاء إلى الغرب كان البيت المبارك له طابع شرقي وبالتدريج رسخت بعض العادات والرسوم الجديدة, وقد شرح شوقي أفندي عن نظام الغذاء في البيت المبارك حيث كان الترتيب كالآتي: -
في حدود الساعة الحادية عشرة كان يحضر حضرة عبد البهاء إلى المنزل ويسأل (عمو قلى ) كم الساعة, عندما كان عمو قلى يقول الساعة , كانت الخادمة تفرش المفرش على ارض الحجرة وتؤخذ الطاولة الصغيرة التي كانت في الممر إلى داخل حجرة الأكل وتضع الملاعق والشوك عليها ثم تضع الخبز والمناديل وكان يجلس حضرة عبد البهاء ويتفضل للجميع " تفضلوا بالجلوس" فكان يأتي الأعمام وأولادهم والأصهار ويجلس الجميع بنفس الترتيب0 كان حضرة عبد البهاء يوزع الأكل عليهم وفى منتصف الأكل تحضر الورقة العليا من المطبخ وكان من عادتها حين دخولها تخلع حذاءها وتلبس حذاء مريحا أخر وبيدها صحن. وفى كل الأوقات تجلس بقرب حضرة عبد البهاء, وبعد فترة وجيزة يدخل الإماء والأطفال والصبايا بالترتيب والمجموعة التي كانت في البداية تتناول طعامها تقوم كي تفسح المكان للاخرين0 وفجأة كان يلاحظ أن الحجرة قد امتلأت بالأطفال والأمهات وتصبح فوضى 00 وكان الخدام يتناولون الغذاء على نفس المائدة 0وبعد رجوع حضرة عبد البهاء من الغرب تغيرت الأوضاع قليلا حيث تم إعداد وسائل أكثر مناسبة مثل الكراسي والطاولات ولوازم أخرى0 (12)
فضل حضرة عبد البهاء الثياب القطنية البسيطة رخيصة الثمن0 كما لم يكن حضرته يمتلك ملابس كثيرة فكان يكفيه رداء واحدا نظيفا وعندما تكون لديه ثياب أضافية زائدة عن الحاجة, كان يعطيها للآخرين0
" ذات يوم كان يرغب في الذهاب لحاكم عكا بناء على دعوته 0 شعرت زوجته أن معطفه لم يكن لائقا للمناسبة 0 قبل المناسبة بأيام عديدة ذهبت إلى الخياط وأمرت بمعطف جديد لحضرة عبد البهاء وظنت انه لن يلحظ أن معطفه قد استبدل لان حضرته كان يهتم فقط بالنظافة 0 عندما جاء يوم زيارة الحاكم, وضعت المعطف الجديد لكي يرتديه حضرة عبد البهاء, ولكنه ذهب يبحث عن معطفه القديم 0 طلب معطفه القديم قائلا: إن ذلك الذي وضعته ليس ملكا لي 0 حاولت زوجته توضيح أمر شرائها للمعطف لأنه سيقابل الحاكم ويستحسن أن يلبس معطفا جديدا 0 ولكنه قال بأنه لا داعي لأنفاق المال على هذا المعطف وإذا كان بحاجة إلى معطف جديد يمكنكم إرجاع المعطف الباهظ الثمن وتطلبوا خمسة معاطف عادية بنفس ثمن المعطف الواحد 0 ثم سترين إنني لا املك معطفا جديدا فقط بل سيكون لي أربعة معاطف لأعطيها للآخرين 0 (13)
وتسرد لنا سيدة أمريكية شاهدت حضرة عبد البهاء أثناء زيارته إلى أمريكا قائله " كانت تطل من نافذتها ذات ليلة عندما شاهدت حضرة عبد البهاء يتمشى على رصيف الشارع الخالي من المارة وهو يُملى بعض بياناته على كاتب معه وفجأة برز فقير معدم يمشى بلا سروال فأوقفه حضرة عبد البهاء وتلفت حوله قائلا للكاتب " يجب أن نستره ولكن ما ذا نفعل في هذه الساعة " وعلى الفور وبدون أي تردد توجه حضرته إلى جانب البناية ورفع ملابسة ثم خلع سرواله وعاد ليعطيه للرجل المسكين فألبسه إياه ثم ودعه في عطف ومودة قائلا " ربى معك " 0
وكان لا يسمح لعائلته بعيشة الرفاهية أما غرفته فصغيرة عارية من الأثاث وليس فيها سوى حصيرة 0 ودائما يقول كيف أتمتع بنوم الرفاهية بينما الكثير من الفقراء ليس لهم مأوى لذا كان ينام على البلاط ويلف نفسه بعباءته فقط 0
" في أحد الأيام أراد حضرة عبد البهاء أن يذهب من عكا إلى حيفا 0 فأخذ مقعدا في درجة عادية في مركبه رخيصة مزدحمة بالركاب 0 اندهش السائق وسأل نفسه عن سبب ركوب حضرته هذه المركبة الرخيصة 0 ومن ثم قال لحضرته: بألتاكيد حضرتك تفضل أن تركب مركبة خاصة 0 فأجاب حضرته: كلا وتابع رحلته إلى حيفا 0 وفى حيفا عندما نزل من المركبة قابلته صيادة سمك فقيرة لم تصطد شيئا منذ الصباح وكان عليها أن تعود إلى عائلتها الجائعة بدون أكل 0 فطلبت من حضرته العون 0 فأعطاها مبلغا جيدا من النقود, ثم استدار إلى السائق قائلا: لماذا اركب في درجة أولى في حين أن الكثير من الناس يموتون جوعا ؟ " (140
صفته وصفاته
غادر حضرة عبد البهاء إيران منفيا إلى العراق مع والده طفلا لم يتجاوز التاسعة من عمرة وخلف وراءه ارض الأجداد والثروة والجاه وذكريات الطفولة فوق روابي وجبال مازندران بعد أن عاش فترة لم تكن طويلة لكنه قاسى خلالها الكثير من المتاعب والمصاعب وتكدرت نفسه الغضة بصورة مؤلمة شديدة القسوة ظل يعانى من ذكرياتها طوال حياتة0
وفى العراق قضى عشر سنوات تفتحت فيها مداركه ونمت مواهبه وأصبح شابا فتيا نضرا حسن الشكل جدا حتى انه اشتهر بأنه أجمل فتيان بغداد وكانت نزهته وتسليته الوحيدة ركوب الخيل فقد كان مغرما بها0
" سألت الكونتيسة كنفارو عباس أفندي عما كان شديد التعلق به حين الصبا فأجاب قائلا " كنت شديد الولوع بسماع وقراءة ألواح حضرة الباب وكان من عاداتي حفظها لفظيا ومعنويا بهذا كان غرامي في أيام الصغر "
ولما سُئل هل طلب تسلية أجاب " ركبت الخيل في بغداد وكان عزمي الاصطياد فجمعتني الظروف على جماعه من الصيادين ولكني لما رأيتهم يقتلون الطيور والحيوانات انتبهت إلى أن ذلك حرام وخطر بذهني أن اقتنص أرواح العباد لتقريبها إلى الله أولى من اقتناص الحيوان وعلى ذلك صممت وهذا أول وآخر تجاربي في الصيد وهذا كل ما أخبرك به عن نفسي وهو أنى ابحث عن الأرواح لإرشادها إلى الصراط المستقيم000 وكانوا يعجبون بعلمه وذكائه حتى عرف بالشاب الحكيم وكانوا يسألونه – من علمك ومن أين تتلقى هذه الأشياء التي تلقيها – فكان الجواب الذي يجيب به ( أن أباه هو الذي علمه)" (1)
وكتب جناب النبيل فى مذكراته الغير منشورة " تفضل حضرة بهاء الله قائلا : - " كان دائما يزورني إمام اسمه عبد السلام كان يدرس في مدرسه شيخ عبد القادر ، اتفقت معه أن يلتقي صباحا وعصرا مع غصن الأعظم ويتباحث معه في المسائل العلمية .
فقال احد المرات " منذ ثلاثين عاما وأنا أسعى لتحصيل العلوم ورغم ذلك حينما يسألني شخص يجب أن ارجع إلى الكتب ولكن ابنكم يتكلم ببيانات لم يصل تفكيري إليها فان فطرة الغصن الأعظم تحكي عن فطره الله فهو يدرك العلوم والصنائع بسرعة في حين يعجز عنها الآخرون "
كان حضرة عبد البهاء حصيفا بليغا حاضر البديهة واسع المعرفة, إذا تحدث سحر سامعيه ببيانه, وبهرهم بمنطقه ومقاله, أسرهم بمحبته ودماثة خلقه, فمجده كل من حظي بالتشرف بلقائه, واعترف له أهل الشرق والغرب بأنه سر من أسرار الله وآية من آيات إبداعه0
كما كانت حياة عبد البهاء بصفته المثل الأعلى لتعاليم جمال الأقدس الأبهى مشحونة في كل ثناياه بثمرة التعاليم المباركة …. أعد العبودية أعلىَ مقام له, وقام بتعليم هذه الصفة الجليلة عمليا, شفهيا و كتابيا.
يتفضل فيقول : -
" أن الجمال المبارك لم يربيني كي أعيش حياتي الدنيوية في راحة ونعمة وسرور.. فالجمال المبارك قضى حياته في السجن كي تنبت في طينتنا النية الصادقة لخدمة أمر الله, فلم يكن في حياة حضرة عبد البهاء أثر أو إشارة للكمال بل كل ما كان هو الكمال المحض, فكان يتفضل أن الجمال المبارك علمني بأن أحمل حمل الآخرين لا أن أضع أثقالي على أكتافهم." (2)
" كان ربعة القوام جليل المنظر سامي الهيئة يلبس قفطانا ابيض فوق الجبة وعلى رأسه العمامة قوى البنية مضيء الطلعة يتدلى شعره على كتفيه وتارة يعقصه تحت عمامته اقنى الأنف أشمه تلوح على وجهه علامات الوداعة خفيف الشارب واللحية ذا عينين زرقاوتين واسعتين مع نظر ثاقب معتدل كالسهم, عريض الجبهة وضاح الجبين تظهر على جبهته العريضة أثار الغضون التي تدل على ما قاساه في حياته من المصاعب والمتاعب في سبيل إرشاد الإنسانية الضالة في بيداء الجهالة والانقسام, يتدفق البشر والحنان من محياة وتلوح الشهامة والنبل على سيماه بحيث يشعر كل من واجهه بهيبة عظيمة وجلال باهر, شدة الذكاء وتوقد الخاطر وحدة الفؤاد ظاهره مشرقة من طلعته ومن كلماته وحركاته0 قواه العقلية ومزاياه الادراكية وهبية لا كسبية عظيم الإخلاص نقى الضمير ابتسامته تسحر اللب وتجذب إليه القلوب يمشى بخطى واسعة كأنه ملك عظيم أو راع بار في وسط رعيته بل أسد رابض في عرينه وبالاختصار فقد كان قويا مقتدرا متأنيا في عمله لطيفا في مَعْشرَةه لينا في خطابه كأنه والد حنون في وسط أولاده, وحركاته ومقابلاته وجلوسه هي مظاهر القوة والشهامة والحرية والاقتدار, فصيح اللسان عذب البيان مطيل الصمت والتفكير في مواضعه0 (3)
وكتب السيد ثورنتون شيس في وصفه لعبد البهاء في السجن سنة 1907 فقال - " كانت خطواته وهيئته خطوات ملك وهيئته 0 وان الأثر الذي انطبع على قلبي هو مظهره القوى الملكي الفذ في أعظم ما
يكون من المسلك الحلو الكريم0 انه يُظهُر المحبة لكل إنسان, ويتقرب إلى الجميع, ويدعو الجميع, ويحب أن يخدمهم جميعا حتى في اقل الأشياء " (4)
وصف البروفيسور برا ون الذي زار عكاء سنة 1890 م حضرة عبد البهاء وصفا بليغا كما رآه في ذلك الوقت بمقدمة كتابه ( قصة السائح) فقال: - " لم أر
أحدا في منظره أكثر من هذا الرجل المستقيم القامة القوى التركيب المعتدل كالسهم هذا الذي يلبس العمامة والملابس البيضاء, والشعر الأسود المتدلي على كتفيه العريض الجبهة الوضاء الجبين الدال على شدة الذكاء وصدق الفراسة ذا الإرادة الثابتة والعينين اللتين كعيني الصقر الدالتين مع ذلك على حسن الطوية 0 هذه هي أول رؤياي للمولى عباس أفندي كما تسميه البهائية وبمحادثته تلت هذه الرؤيا وقع اعتباره في نفسي وارتفعت منزلته عندى0" (5)
* كتب معلق على رحلات حضرة عبد البهاء إلى أمريكا فقال: " حينما زار حضرة عبد البهاء هذه البلاد لأول مرة سنة 1912م وجد جمهورا كبيرا محبا ينتظرونه ليحيوه بأشخاصهم وليتسلموا من شفتيه رسالته في المحبة والروحانية000 ومن وراء الكلمات المنطوقة كان هناك شئ من شخصيته لا يمكن وصفه, وكان هذا الشيء يؤثر تأثيرا عميقا في كل من فاز بمحضره, فرأسه الذي يشبه القبة, ولحيته الأبوية, وعيناه اللتان كانتا تبدوان وكأنهما تنظران إلى ما وراء الزمن والحس, وصوته الواضح النفاذ رغم انخفاضه وتواضعه الخالص, ومحبته الغلابة, وفوق كل شئ ذلك الإحساس بالقوة يخالطها اللطف الذي زود كيانه كله بجلال نادر نابع من الغبطة الروحية الذي نأى به عن الناس من ناحية وقربه من ناحية أخرى إلى أوضع النفوس, كل ذلك وكثير مما لا يمكن تعريفه خلق عند العديدين من أصدقائه ذكريات لا يمكن أن تمحى, ذكريات نفيسة لا يمكن أن توصف بوصف " 0 (6)
* وكتب الدكتور شين أستاذ تفسير الكتاب المقدس في أكسفورد في كتابه " الوئام بين الأجناس والأديان" فقال: -
" إن عبد البهاء يذكره بالقديس فرنسيس أسيسى, إلا أن القديس فرنسيس " كان يحتقر علم البشر " ومن ثم " كان عبد البهاء رجلا أكمل " 00 وقال أيضا " لن يستطيع أحد على مدى ما تستطيع ملاحظاتي أن تسجل – أن يكون مظهرا للكمال كما كان عبد البهاء, وهو يخبرنا بأنه صوره منعكسة من بهاء الله " (7)
* ويقول الدكتور جون أسلمنت في كتابة بهاء الله والعصر الجديد: -
" وكانت خدماته دائما موجهة إلى الذين هم في حاجة شديدة إليها 0 فكان صبره الجميل ولطفه وبشاشته ودماثة أخلاقه قد جعلته نعمة عظيمة على الجميع"0
" وكما هو الحال عند حضرة بهاء الله وحضرة الأعلى وسائر الأنبياء والمرسلين في قدرتهم عمل المعجزات, كان لحضرة عبد البهاء القدرة نفسها, خاصة في شفاء المرضى, لكن أخبار هذه المعجزات تبقى للتداول بين البهائيين فقط, وليس لإثبات صحة الدين0" أما في صور عبد البهاء المشهورة المأخوذة
في باريس فان القوة والذكاء والأرادة تبدو متساوقة مع تواضع جم وحزن بالغ صادر عن قلب يتألم ويتوجع لعالم شقي بائس "0 (
كان يحب الناس ويسعد بقربهم وبخدمتهم وكان يصرح دائما :
" إن منزلي منزل السرور والانشراح " وحقيقة كان الأمر كما يقول, فقد كان يبتهج بجمعه الكثيرين من الناس من أجناس مختلفة وألوان واديان مختلفة بالمحبة والوفاق التام على مائدة كرمه 0 (9)
"أما احتياجات حضرة عبد البهاء فقد كانت قليلة وكان يشتغل مبكرا والى ساعة متأخرة ويكفيه غداءان بسيطان في اليوم " (10)
وكانت عاداته في تناول طعامه عجيبة تلفت النظر وتسهل ملاحظتها وفى اعتقادي أن تلك العادات ارتبطت بقوة بحياة وتاريخ حضرة الباب وحضرة بهاء الله 0 فكثيرا ما كان حضرته يتذكرهما ويسترجع المحن والآلام التي قاساياها والأيام الطوال التي لم يجدا خلالها من لقمة تسد رمقهما أو قنديل يبدد ظلمة لياليهما فكان طعامه قليلا00 في الصباح كان يفطر الخبز والجبن والشاي ويكتفي في العشاء بقطعة خبز وفنجان حليب, ويتفضل " أليس هذا كافيا؟ ألم يمض حضرة بهاء الله في السليمانية أغلب أوقاته بهذا فقط ؟ وكان في أغلب الأوقات يقوم بخدمة الآخرين على المائدة وأثناء الأكل يتفضل بالرد على أسئلة الحاضرين وإيضاح ما يودون معرفته من بيانات وعندما كان يبدأ الجميع بالأكل يبدأ حضرته بعمل لقيمات صغيرة بحجم الجوز وكان يمضغها ببطء لم يكن حضرته يميل إلى أكل اللحوم في حين كان يميل إلى تناول فاكهة اليوسفي والليمون الحلو, وفي أغلب الأوقات يأكل الخبز والجبن والحليب, ويحب من الخضراوات الريحان والنعناع والترخان والزيتون0 بصفة عامة كان قليل الأكل, ويشرب الشاي ساخنا جدا, كما كان نومه قليلا.(11)
" قبل سفر حضرة عبد البهاء إلى الغرب كان البيت المبارك له طابع شرقي وبالتدريج رسخت بعض العادات والرسوم الجديدة, وقد شرح شوقي أفندي عن نظام الغذاء في البيت المبارك حيث كان الترتيب كالآتي: -
في حدود الساعة الحادية عشرة كان يحضر حضرة عبد البهاء إلى المنزل ويسأل (عمو قلى ) كم الساعة, عندما كان عمو قلى يقول الساعة , كانت الخادمة تفرش المفرش على ارض الحجرة وتؤخذ الطاولة الصغيرة التي كانت في الممر إلى داخل حجرة الأكل وتضع الملاعق والشوك عليها ثم تضع الخبز والمناديل وكان يجلس حضرة عبد البهاء ويتفضل للجميع " تفضلوا بالجلوس" فكان يأتي الأعمام وأولادهم والأصهار ويجلس الجميع بنفس الترتيب0 كان حضرة عبد البهاء يوزع الأكل عليهم وفى منتصف الأكل تحضر الورقة العليا من المطبخ وكان من عادتها حين دخولها تخلع حذاءها وتلبس حذاء مريحا أخر وبيدها صحن. وفى كل الأوقات تجلس بقرب حضرة عبد البهاء, وبعد فترة وجيزة يدخل الإماء والأطفال والصبايا بالترتيب والمجموعة التي كانت في البداية تتناول طعامها تقوم كي تفسح المكان للاخرين0 وفجأة كان يلاحظ أن الحجرة قد امتلأت بالأطفال والأمهات وتصبح فوضى 00 وكان الخدام يتناولون الغذاء على نفس المائدة 0وبعد رجوع حضرة عبد البهاء من الغرب تغيرت الأوضاع قليلا حيث تم إعداد وسائل أكثر مناسبة مثل الكراسي والطاولات ولوازم أخرى0 (12)
فضل حضرة عبد البهاء الثياب القطنية البسيطة رخيصة الثمن0 كما لم يكن حضرته يمتلك ملابس كثيرة فكان يكفيه رداء واحدا نظيفا وعندما تكون لديه ثياب أضافية زائدة عن الحاجة, كان يعطيها للآخرين0
" ذات يوم كان يرغب في الذهاب لحاكم عكا بناء على دعوته 0 شعرت زوجته أن معطفه لم يكن لائقا للمناسبة 0 قبل المناسبة بأيام عديدة ذهبت إلى الخياط وأمرت بمعطف جديد لحضرة عبد البهاء وظنت انه لن يلحظ أن معطفه قد استبدل لان حضرته كان يهتم فقط بالنظافة 0 عندما جاء يوم زيارة الحاكم, وضعت المعطف الجديد لكي يرتديه حضرة عبد البهاء, ولكنه ذهب يبحث عن معطفه القديم 0 طلب معطفه القديم قائلا: إن ذلك الذي وضعته ليس ملكا لي 0 حاولت زوجته توضيح أمر شرائها للمعطف لأنه سيقابل الحاكم ويستحسن أن يلبس معطفا جديدا 0 ولكنه قال بأنه لا داعي لأنفاق المال على هذا المعطف وإذا كان بحاجة إلى معطف جديد يمكنكم إرجاع المعطف الباهظ الثمن وتطلبوا خمسة معاطف عادية بنفس ثمن المعطف الواحد 0 ثم سترين إنني لا املك معطفا جديدا فقط بل سيكون لي أربعة معاطف لأعطيها للآخرين 0 (13)
وتسرد لنا سيدة أمريكية شاهدت حضرة عبد البهاء أثناء زيارته إلى أمريكا قائله " كانت تطل من نافذتها ذات ليلة عندما شاهدت حضرة عبد البهاء يتمشى على رصيف الشارع الخالي من المارة وهو يُملى بعض بياناته على كاتب معه وفجأة برز فقير معدم يمشى بلا سروال فأوقفه حضرة عبد البهاء وتلفت حوله قائلا للكاتب " يجب أن نستره ولكن ما ذا نفعل في هذه الساعة " وعلى الفور وبدون أي تردد توجه حضرته إلى جانب البناية ورفع ملابسة ثم خلع سرواله وعاد ليعطيه للرجل المسكين فألبسه إياه ثم ودعه في عطف ومودة قائلا " ربى معك " 0
وكان لا يسمح لعائلته بعيشة الرفاهية أما غرفته فصغيرة عارية من الأثاث وليس فيها سوى حصيرة 0 ودائما يقول كيف أتمتع بنوم الرفاهية بينما الكثير من الفقراء ليس لهم مأوى لذا كان ينام على البلاط ويلف نفسه بعباءته فقط 0
" في أحد الأيام أراد حضرة عبد البهاء أن يذهب من عكا إلى حيفا 0 فأخذ مقعدا في درجة عادية في مركبه رخيصة مزدحمة بالركاب 0 اندهش السائق وسأل نفسه عن سبب ركوب حضرته هذه المركبة الرخيصة 0 ومن ثم قال لحضرته: بألتاكيد حضرتك تفضل أن تركب مركبة خاصة 0 فأجاب حضرته: كلا وتابع رحلته إلى حيفا 0 وفى حيفا عندما نزل من المركبة قابلته صيادة سمك فقيرة لم تصطد شيئا منذ الصباح وكان عليها أن تعود إلى عائلتها الجائعة بدون أكل 0 فطلبت من حضرته العون 0 فأعطاها مبلغا جيدا من النقود, ثم استدار إلى السائق قائلا: لماذا اركب في درجة أولى في حين أن الكثير من الناس يموتون جوعا ؟ " (140