قصيدة "رشح العماء"
إن أول ألواح حضرة بهاءالله، حسب معرفتنا، قصيدة "رشح العماء" التي نزلت بالفارسية في سجن سياه جال بطهران بعد تجلي الروح الأعظم مباشرة على روحه المتألقة. إنها ترنيمة النصر والفرح، ورغم أنها نزلت بلغة الاشارات والتلميحات فإن تجربته الإلهية معلنة فيها بوضوح. في كل بيت فيها يمجد بهاء الخالق الذي أصبح مظهرا له، وفي كل عبارة يكشف العوالم الروحانية التي ظهرت في روحه.
ومع أن هذه القصيدة تقع في تسعة عشر بيتا فقط، إلا أنها تعتبر مجلدا ضخما يختزن الطاقات والسمة والقوة والمجد الذي ميز السنوات الأربعين اللاحقة من الوحي الإلهي. إنها البشائر تعلن انطلاق قوى روحانية وصفها حضرة بهاءالله بمنتهى الجمال كأنها هبات النسيم تعبق بالمسك الإلهي، وظهور البحر الأعظم لأمر الله. هي نفخة الصور وتدفق ماء الحيوان وشدو ورقة الفردوس ومجيء حورية القدس. وبكلمات رائعة مثيرة للشجون ينسب هذه القوى إلى نفسه. إن بلاغة التعبير وما اختزنته هذه القصيدة، وقصائد أخرى مماثلة، من قوة وعمق وسحر وجمال، جعلت منها بلا شك قصائد تصعب ترجمتها.
في هذه الترنيمة الإلهية كشف حضرة بهاءالله لأول مرة عن إحدى سمات ظهوره الفريدة، مجيء "يوم الله" الذي نسبه إلى نفسه في تلك المرحلة المبكرة من ولايته وأعلن أن ظهوره هو "اليوم" الموعود في الاسلام عندما يتحقق القول المعروف "أنا هو". حيث "أنا" تعني شخص المظهر الالهي أي حضرة بهاءالله نفسه و"هو" تعني "الله". وهذا أكبر دليل على عظمة ظهوره. وفي الحقيقة فإن حضرة بهاءالله قد أعلن في العديد من ألواحه المباركة أنه المتكلم بآسم الحق بقوله: "أنا الله"، على أن هذه الوحدة مع الله تكون في عالم الصفات لا في جوهر الحق. وهذا ما أوضحه بقوله الأحلى:
"... أن غيب الهوية وذات الأحدية كان مقدسا عن البروز والظهور، والصعود والنزول والدخول والخروج، ومتعاليا عن وصف كل واصف وإدراك كل مدرك، لم يزل كان غنيا في ذاته، ولا يزال يكون مستورا عن الأبصار والأنظار بكينونته." (1)
في أحد أحاديث الشيعة ورد أن "القائم الموعود" سينطق بكلمة يفر منها نقباء الأرض. وفي لوح مبارك شرح حضرة بهاءالله بأنها هي التحول من "هو" إلى "أنا". فبدلا من قوله "هو الله" سينطق في هذا اليوم "أنا الله"، والذين حرموا من نفاذ البصيرة ونعمة الإدراك سينفضون من حوله.
إن نزول هذه القصيدة المبهجة المدهشة في سجن سياه جال، في وقت عانى هيكله المبارك من صنوف الشدائد المروعة، لهي دليل على روحه المحيية النافذة التي لا تقهر، وهي اللوح الوحيد- حسب تقديرنا- الذي نزل في البقعة التي شهدت مولده، تلك الأرض التي أحبها وكانت مهد وحيه.