أيام الشدائد سياه جال
"ما كاد الدين الجديد يولد حتى قاومته الحكومة ورجال الدين والشعب وقاموا ضده قومة رجل واحد وتحالفوا فيما بينهم على مناصبته العداء إلى الأبد 00 والواقع أن المحن والفتن والنكسات والهزائم والسعايات والوشايات والمجازر والمذبائح أخذت كلها تعمل منذ البداية وبدرجات متزايدة على استئصال شأفة أتباعه من كل الطبقات 00 كما أن العاصفة التي هبت بعد ذلك بقوه فريدة على الجامعة الجاثية على ركبتيها من شدة القهر حرمتها من أعظم أبطالها 00 وساقت حضرة بهاء الله إلى سجن مظلم تحت الأرض وكان حضرته الوحيد الذي بقى على قيد الحياة من عمالقة الدورة الجديدة" (1)
" تميزت شخصية حضرة بهاء الله قبل إعلان دعوة حضرة الباب بخصال نبيلة وفضائل حميدة تبلورت بعد ذلك متألقة بنور دين جديد ومدعومة بعنفوان ذلك الدين وقوته 0 وكان لابد لشخصية مثله أن تجتذب اهتمام الناس جميعا000 ما جعل منه محور عشق الجامعة البابيه ومحط تقديرها 00 إلا أن مظاهر التبجيل التي أحاطت به, مقترنة بدعوته العلنية للدين البابى أثارت من حولـه مقاومة الأعداء الذين طالما اضطهدوه في مناسبات عده وباتوا يتربصون به لسجنه فوجدوا فرصتهم سانحة بعد محاولة اغتيال ناصر الدين شاه من قبل بعض البابين الطائشين"0 (2)
* ويتفضل حضرة عبد البهاء قائلا :
" بأن أيام طفولته كانت تتزامن مع طلوع حضرة النقطة الأولى وظهور المصائب والآلام العديدة حيث قام حضرة بهاء الله لنصرة أمر حضرة الباب وكان هو الملجأ والملاذ الوحيد للأصحاب وما ورد على حضرته كان حضرة عبد البهاء أيضا شريكا لوالده العظيم". (3)
وكانت بداية الآلام في عام1849 حين تم حبس حضرة بهاء الله في آمل نتيجة محاولته الانضمام للمدافعين عن موقع الشيخ طبرسي - والتي لم يتمكن حضرته والمرافقين له من الوصول اليها0
واقتنع الكثير من رجال الدولة وأصحاب السلطان حتى الصدر الأعظم رئيس الوزراء أن المقاومة الباسلة والبطولات المعجزة التي ظهرت من حفنة من الرجال الغير مدربين داخل القلعة ومقاومتهم لجيوش السلطنة الجرارة بكل عتادها وأسلحتها المتفوقة بكل هذه القوة ولمدة سبعة أشهر كانت نتيجة مجهودات ونصائح حضرة بهاء الله ومساعداته للمحاصرين0
فبعد استشهاد حضرة الأعلى عام 1850م ترك حضرة بهاء الله إيران بناء على طلب من الميرزا تقي خان رئيس الوزراء - في ذلك الوقت - بالذهاب إلي العراق لزيارة كربلاء في نفس الوقت الذي توجه فيه الشاه إلى أصفهان على وعد بأن يعين بهاء الله في وظيفة ( أمير ديوان) في البلاط الملكي عند عودته إلا أن بهاء الله رفض هذا العرض وفضل الارتحال إلى كربلاء0
وسافر حضرة بهاء الله إلى العراق بمفرده بينما رحلت آسيا خانم بدورها مع أولادها إلى مازندران في تاكوزويال رود بالقرب من عائلتها وظلت هناك لمدة عام كامل0 عاد بعدها حضرة بهاء الله من كربلاء إلى طهران بينما ظلت آسيا خانم في بيت أسرتها في مازندران هي وأولادها0
كان حضرة بهاء الله قد تزوج في عام 1849م من ابنة عمه فاطمة خانم والتي كانت من قبل متزوجة ومترملة منذ خمس سنوات , وكان عمرها حينذاك 21 عام ولم يكن لديها أولاد من زواجها السابق بينما رزقت من حضرة بهاء الله بستة أبناء (أربعة ذكور وبنتين ) كان أكبرهم الميرزا محمد علي الناقض الأكبر0 وأقام معها في منزل يمتلكه في قرية ( أفجة) بمنطقه نياوران بالقرب من طهران التي تزخر بالمناظر الطبيعية الخلابة ومساقط وجداول المياه الصافية حيث كانت تعتبر نياوران مصيفا للشاه وللعائلة المالكة والنبلاء 0
ولكن لم تمض ثلاثة أشهر علي رجوع حضرته من العراق حتى تزايدت الاضطهادات علي اثر قيام ثلاثة من البابيين بمحاولة اغتيال ناصر الدين شاه مما تسبب في حبس حضرة بهاء الله في سجن ( سياه جال) في أغسطس من عام 1852م0
* وتحكي بهية خانم ابنة حضرة بهاء الله - وكان عمرها ست سنوات - قصة اعتقال حضرة بهاء الله:-
" كان في طريقه للانضمام لعائلته عندما قبض عليه حراس الدولة وأخذوه معتقلاً في نياوران0 كان والدي بعيداً عنا حيث يقيم في بيته الذي يمتلكه في نياوران ‘ وفجأة جاءنا أحد خدامه وكان حزيناً وقال لوالدتي : سيدي00 سيدي قد قبض عليه لقد رأيته لقد سافر عدة أميال ‘ كانوا يقذفونه بالحجارة00 لقد عذبوه وضربوه بالفلق ورجلاه تنزفان ‘ لقد كانت رجلاه عاريتين , أخذت منه عباءته , ثيابه ممزقه وتلتف السلاسل حول عنقه0 تحول وجه أمي إلي اللون الأصفر ‘ صارت شاحبة ‘ نحن الأطفال أصابنا الذعر ‘ لم يكن لدينا شيء نفعله إلاّ البكاء ‘ كل الأصدقاء والخدم تركونا خوفاً علي أرواحهم إلا واحداً من الخدم اسمه أسفنديار وأمرأه وآحده 00 قصرنا والبيوت الملتحقة به كان قد سرق منها كل شئ الأثاث والكنوز0 ولحماية الخادم أسفنديار أرسلته آسيا خانم إلى مازندران, ونتيجة الحياة الصعبة اضطرت آسيا خانم إلى استئجار بيت صغير في مكان خفي من المدينة نقلت أولادها إليه " . (4)
وروى حضرة عبد البهاء في كتابه ( مقالة سائح) حادثة القبض على حضرة بهاء الله فقال: -
" كان بهاء الله إذ ذاك يصيف بقرية ( أفجة ) التي لا تبعد عن طهران إلا بمرحلة واحدة ولما ذاعت الأنباء وقررت الحكومة إجراء مقتضيات السياسة, اخذ كل إنسان من المعرفين بالنسبة يحتاط لنفسه إما بالانزواء في مخبأ أو بالرحيل عن الوطن0 وكان من عديد الطائفة ميرزا يحيى أخو بهاء الله فتستر بزي الدروشة وحمل الكشكول وركن إلى الهرب والفرار عن طريق رشت وضل ضلال الصحارى والجبال0 أما بهاء الله فأنة بكمال السكينة والطمأنينة ومنتهى الثبات والرزانة ركب من ( أفجة ) وورد على ( نياوران ) التي هي مقر الموكب الشاهانى ومقام الحرس المملوكي وعند وروده سارعوا إلى اعتقاله وأقاموا فوجا من الجند حراسا عليه وبعد التساؤل والتفاهم معه بقليل من الأيام سيروه مسلسلا مغلولا من شميران إلى سجن طهران0 وكانت هذه الشدة من فرط إلحاح الحاج علي خان الملقب ( بحاجب الدولة ) ولم يكن هناك أمل في نجاته "0 (5)
" وبينما كان حضرة بهاء الله مسجونا في طهران أصدر ناصر الدين شاه أوامره المشددة إلى رئيس وزرائه ميرزا أقا خان بأن يرسل جنودا إلى إقليم نور لاعتقال كل أتباع حضرة الباب في تلك الأنحاء وحيث أن رئيس الوزراء كان من نور وتربطه بحضرة بهاء الله صلة نسب بزواج ابنة أخيه من ميرزا محمد حسن الأخ الغير شقيق لحضرته فقد بذل كل جهد لحماية أقارب حضرة بهاء الله في نور إلا انه فشل0 فكان أن صادر الشاه أملاك حضرة بهاء لله وسوى منزلـه في" نور" بالأرض0 واستغل رئيس الوزراء الموقف ( طبقا للعادات والتقاليد السائدة في إيران في تلك الأيام ) وسجل بعض الأملاك بإسمه دون أن يدفع أية تعويضات0 كما نهب منزل بهاء الله الفاخر في طهران وافرغ من أثاثه الثمين واستولى رئيس الوزراء على بعض المخطوطات القيمة من بينها جزء من لوح لا يقدر بثمن مخطوط على الجلد منذ أكثر من ألف عام بخط يد الإمام على ومخطوطة نادرة من شعر "حافظ " كتبها خطاط مشهور0 ( كان محمد شاه يتلهف لتملك تلك المخطوطة ولكنه عندما علم أن عليه دفع عملة ذهبية واحدة ثمنا لكل بيت من أبيات القصيدة البالغ عددها اثني عشر ألف بيت تخلى عن الفكرة ) " (6)
* ويتفضل حضرة عبد البهاء قائلا أيضا : " مساء أحد الأيام في طهران, كنا نملك كل شئ وفى الصباح جردنا من كل شئ فلم يكن لدينا حتى الخبز لنأكله فوضعت والدتي في راحة يدي قليلا من الدقيق لأسد به رمقي بدل الخبز.. رغم ذلك كنا قانعين وشاكرين " (7)
وفي يوم من الأيام كانت العائلة في احتياج شديد لبعض المال لشراء بعض الحاجيات اللازمة, وبالرغم من الأخطار المحدقة التي تحوم حولهم من كل جهة اضطرت آسيا خانم إلى إرسال إبنها حضرة عبد البهاء إلي عمته والتي كانت تسكن في الطرف الآخر من المدينة ويحكي لنا حضرة عبد البهاء قصة ذلك اليوم : -
" كنت طفلا في التاسعة من عمري عندما هاجمتنا البلايا وأحاطت بنا الاضطهادات والشدائد من طرف الأعداء لقد رموا الكثير من الحجارة على بيتنا بحيث امتلأت أماكن كثيرة منه بالحجارة ولم يكن عندنا أحد غير أمي وأختي والأقا ميرزا قلي أخ حضرة بهاء الله ( النصف شقيق ).كان ميرزا قلي طفلاً ورعاه حضرة بهاء الله وشاركه النفي في كل الأماكن00 فأخذتنا الوالدة من ( دروازة شميران ) إلى منطقة ( سنجلج ) وأدخلتنا في منزل أخر كي تحافظ علينا0 ومنعتنا أمنا عن الخروج من البيت إلى أن وصل بنا الحال إلى درجة من السوء بحيث ساءت المعيشة واضطرت في يوم من الأيام بأن تبعثـني إلى عمتي لطلب بعض الريالات وكان بيت عمتي في تكية الحاج رجب علي القريب من مسكن الميرزا حسن كج دماغ "الأنف المعقوف " فذهبت وأعطتني عمتي (خمسة) ريالات قامت بربطها في منديل0 وعند عودتي من التكية عرفني أبن الميرزا حسن وفى الحال نادى على الأولاد بأنني بابي وفوراً لاحقني الأولاد وركضوا ورائي وكنت بالقرب من بيت الحاجى ملا جعفر أستار آبادي فعندما وصلت إلى هناك فأخذت ملجأ في مدخل هذا البيت.. رآني إبن الحاجى ملا جعفر لم يصدني كما وأنه لم يمنع الأولاد عن مطاردتي.. بقيت هناك حتى جاء ظلام الليل..وعندما تركت المكان لاحقني الأولاد مرة ثانية ورموني بالحجارة ومع وصولي إلى دكان الأقا محمد حسن صندوقدار توقف الأولاد عن الجري ورائي وباختصار لما وصلت البيت كنت منهكاً ومرعوباً لدرجة أني وقعت مغمي عليّ فحملتني والدتي ووضعتني في الفراش لأنام "(
كم كان لتلك الأحداث أثرها القاسي على آسيا خانم ويمكننا أن نتصور مدى العذاب الذي عانته في تلك الفترة عندما تحكي بهية خانم عن أيام الشدائد التي مروا بها فتقول:
"إن والدي الحبيب والذي رُمِيَ في سجن ( سياه جال ) لمدة أربعة أشهر‘عانى كثيرا من قلة الطعام والماء فلم يكن يعطى للسجناء الأكل000 إلا أن والدتي دبرت إدخال الأكل والشراب إلى هذا السجن الموحش (المقزز) وكان الميرزا يوسف والمتزوج من عمة والدي وهو صديق للقنصل الروسي في طهران هو من يحمل الطعام إلى والدي في السجن0 وقد كانت العادة في تلك الأيام أن لا تقوم الدولة بتنفيذ حكم الإعدام بل تقوم بتسليم المتهم للشعب لتنفيذ الحكم فكان الجزار والحداد وصانع الأحذية يجدون الفرصة لتنفيذ حكم الإعدام عن طريق استعمال ابتكارات في التعذيب والانتقام وكانت الطبول تدق لجذب عامة الشعب لحضور تنفيذ حكم الإعدام ‘ وعندما كانت تنطلق تلك الأصوات كنا نلتف حول أمي فلم نكن على علم إذا كان المتهم الذي سوف ينفذ فيه حكم الإعدام والدنا الحبيب أم لا..فدائما كنا نفترض أنه والدنا...كانت والدتي مع كل تلك الأخطار المحدقة بنا تخرج لتستعلم عن أسم الشخص الذي نفذ فيه حكم الإعدام, كنت أرجف رعباً لإطلاعي على ما حدث للبابيين التي كانت والدتي تحصل عليها عبر الميرزا يوسف الذي يحضر المحاكم يومياً ليتعرف علي المتهمين ولذلك كان بإمكانه إعطاء بعض المعلومات المطمئنة عن حالة والدي وإزالة بعض القلق عنا وعن أمنا ولم يجرؤ أحد من الأصدقاء أو الأقرباء من زيارة والدتي خوفاً من الموت ولكن عمة والدي زوجة المرزا يوسف هي الوحيدة التي كانت تزورنا " 0 (9)
* وحكى حضرة عبد البهاء أيضا , وكان عمره يناهز الثماني سنوات فقال : - " كنا التجأنا إلى منزل عمنا ميرزا إسماعيل وكنت تجاسرت في بعض الأيام أن اخرج من المنزل واعبر الطريق لغاية السوق 00 وما كدت اخرج من العتبة حتى ازدحم حولي الأطفال من سني يصيحون ( بابي00 بابي ) ولعلمي بالذعر الذي أصاب الناس من الكبير والصغير من سكان العاصمة كنت أمر إلى منزلي بهدوء وسكون متجاهلا ندآتهم عمدا 00 وذات يوم كنت أمر وحدي في السوق أثناء عودتي إلى منزل عمى إذ نظرت خلفي وجدت فئة من الأولاد الرعاع ويصيحون مهددين ( بابي بابي ) ورأيت أحسن طريقه للخلاص من الخطر الذي يتهددني هو تخويفهم فعدت إليهم وهجمت عليهم بعزم أوجبهم على الهرب وهم خائفون وجلون ولم يبق منهم أحدا 00 وكنت اسمعهم يقولون على بعد ( إن البابى الصغير تتبعنا وسوف يذبحنا ) وإذ كنت أسير عائدا إلى المنزل سمعت رجلا يصيح بأعلى صوته : - " نعم ما فعلت أيها الغلام الشجاع فما قدر أحد من سنك أبدا أن يقاوم وحده هجومهم " ومنذ ذلك التاريخ لم يتجاسر أحد من أولاد الشوارع أن يعاكسني ولم اسمع أي كلمة جارحة تسقط من أفواههم " (10)
واستطاعت الأسرة أن تحصل على إذن بزيارة بهاء الله في سجن سياه وكان الطفل الصغير عباس هو من سمح له برؤية والده - الذي أحبه حبا عظيما - عند خروجه للرياضة اليومية فأثر هذا المنظر على فكر الفتى عبد البهاء وإحساسه المرهف بصورة لا يمكن نسيانها وظل يذكرها في ألم وأسى حتى آخر أيام حياته0
" كان حضرة عبد البهاء والخادم واقفين خارج السجن ويتمنيان رؤية حضرة بهاء الله 0 وكان الأطفال يلعبون ويضحكون بالقرب منهما, ولكن قلب حضرة عبد البهاء كان مهموما وهو يتأمل الباب الصغير المؤدي إلى داخل السجن المظلم0" (11)
* يتفضل حضرة عبد البهاء متذكرا:
" ذهبت لزيارة والدي في سجن سياه جال عندما كنت صغيرا بصحبة خادم أسود وبوصولنا أشار السجانون نحو جهة الزنزانة التي سجن فيها والدي فاقتربنا منها لنشاهد مكانا مرعبا مظلما لا تدخله الشمس, ومنحدرا تحت الأرض, ولصغر سني حملني الخادم على كتفيه وتوجهنا لدخول ممر ضيق يؤدى لداخل الزنزانة, كان علينا أولا هبوط سلم يقودنا إلى الأسفل ولم ننزل أكثر من درجتين حتى أصبحنا لا نرى شيئا من شدة الظلام إلا أن الخادم أستمر في طريقه نازلا وبينما نحن وسط السلم ولم ندخل الزنزانة بعد0 إذا بصوت الجمال المبارك يعلو من داخل الظلمات آمرا الخادم ( لا تدخله هنا ) وعلى الفور استدار الخادم وأعادني إلى فناء السجن, وجلسنا حوالي الساعة ننتظر خروج السجناء للراحة في الهواء الطلق, ثم ظهر السجناء مكبلين بالسلاسل بعضهم ببعض يمشون واحدا تلو الآخر من خلال تلك الفتحة الضيقة وهم بحالة يرثى لها, ثم لاح هيكل جمال القدم مقيدا مع بقية السجناء يسحب سلاسله الثقيلة بصعوبة وجهد.أحزنني وحز في نفسي ومزق فؤادي منظر والدي العزيز وهو في تلك الحالة ففقدت الوعي وسقطت مغشيا علّى " 0 (12)
وعندما أطلق سراحه من حبس سياه شال كانت آسيا خانم وأولادها مازالوا في مازندران , بينما نزل حضرته ضيفاً لمدة شهر عند شقيق رئيس الوزراء جعفر قلي خان0
"ما كاد الدين الجديد يولد حتى قاومته الحكومة ورجال الدين والشعب وقاموا ضده قومة رجل واحد وتحالفوا فيما بينهم على مناصبته العداء إلى الأبد 00 والواقع أن المحن والفتن والنكسات والهزائم والسعايات والوشايات والمجازر والمذبائح أخذت كلها تعمل منذ البداية وبدرجات متزايدة على استئصال شأفة أتباعه من كل الطبقات 00 كما أن العاصفة التي هبت بعد ذلك بقوه فريدة على الجامعة الجاثية على ركبتيها من شدة القهر حرمتها من أعظم أبطالها 00 وساقت حضرة بهاء الله إلى سجن مظلم تحت الأرض وكان حضرته الوحيد الذي بقى على قيد الحياة من عمالقة الدورة الجديدة" (1)
" تميزت شخصية حضرة بهاء الله قبل إعلان دعوة حضرة الباب بخصال نبيلة وفضائل حميدة تبلورت بعد ذلك متألقة بنور دين جديد ومدعومة بعنفوان ذلك الدين وقوته 0 وكان لابد لشخصية مثله أن تجتذب اهتمام الناس جميعا000 ما جعل منه محور عشق الجامعة البابيه ومحط تقديرها 00 إلا أن مظاهر التبجيل التي أحاطت به, مقترنة بدعوته العلنية للدين البابى أثارت من حولـه مقاومة الأعداء الذين طالما اضطهدوه في مناسبات عده وباتوا يتربصون به لسجنه فوجدوا فرصتهم سانحة بعد محاولة اغتيال ناصر الدين شاه من قبل بعض البابين الطائشين"0 (2)
* ويتفضل حضرة عبد البهاء قائلا :
" بأن أيام طفولته كانت تتزامن مع طلوع حضرة النقطة الأولى وظهور المصائب والآلام العديدة حيث قام حضرة بهاء الله لنصرة أمر حضرة الباب وكان هو الملجأ والملاذ الوحيد للأصحاب وما ورد على حضرته كان حضرة عبد البهاء أيضا شريكا لوالده العظيم". (3)
وكانت بداية الآلام في عام1849 حين تم حبس حضرة بهاء الله في آمل نتيجة محاولته الانضمام للمدافعين عن موقع الشيخ طبرسي - والتي لم يتمكن حضرته والمرافقين له من الوصول اليها0
واقتنع الكثير من رجال الدولة وأصحاب السلطان حتى الصدر الأعظم رئيس الوزراء أن المقاومة الباسلة والبطولات المعجزة التي ظهرت من حفنة من الرجال الغير مدربين داخل القلعة ومقاومتهم لجيوش السلطنة الجرارة بكل عتادها وأسلحتها المتفوقة بكل هذه القوة ولمدة سبعة أشهر كانت نتيجة مجهودات ونصائح حضرة بهاء الله ومساعداته للمحاصرين0
فبعد استشهاد حضرة الأعلى عام 1850م ترك حضرة بهاء الله إيران بناء على طلب من الميرزا تقي خان رئيس الوزراء - في ذلك الوقت - بالذهاب إلي العراق لزيارة كربلاء في نفس الوقت الذي توجه فيه الشاه إلى أصفهان على وعد بأن يعين بهاء الله في وظيفة ( أمير ديوان) في البلاط الملكي عند عودته إلا أن بهاء الله رفض هذا العرض وفضل الارتحال إلى كربلاء0
وسافر حضرة بهاء الله إلى العراق بمفرده بينما رحلت آسيا خانم بدورها مع أولادها إلى مازندران في تاكوزويال رود بالقرب من عائلتها وظلت هناك لمدة عام كامل0 عاد بعدها حضرة بهاء الله من كربلاء إلى طهران بينما ظلت آسيا خانم في بيت أسرتها في مازندران هي وأولادها0
كان حضرة بهاء الله قد تزوج في عام 1849م من ابنة عمه فاطمة خانم والتي كانت من قبل متزوجة ومترملة منذ خمس سنوات , وكان عمرها حينذاك 21 عام ولم يكن لديها أولاد من زواجها السابق بينما رزقت من حضرة بهاء الله بستة أبناء (أربعة ذكور وبنتين ) كان أكبرهم الميرزا محمد علي الناقض الأكبر0 وأقام معها في منزل يمتلكه في قرية ( أفجة) بمنطقه نياوران بالقرب من طهران التي تزخر بالمناظر الطبيعية الخلابة ومساقط وجداول المياه الصافية حيث كانت تعتبر نياوران مصيفا للشاه وللعائلة المالكة والنبلاء 0
ولكن لم تمض ثلاثة أشهر علي رجوع حضرته من العراق حتى تزايدت الاضطهادات علي اثر قيام ثلاثة من البابيين بمحاولة اغتيال ناصر الدين شاه مما تسبب في حبس حضرة بهاء الله في سجن ( سياه جال) في أغسطس من عام 1852م0
* وتحكي بهية خانم ابنة حضرة بهاء الله - وكان عمرها ست سنوات - قصة اعتقال حضرة بهاء الله:-
" كان في طريقه للانضمام لعائلته عندما قبض عليه حراس الدولة وأخذوه معتقلاً في نياوران0 كان والدي بعيداً عنا حيث يقيم في بيته الذي يمتلكه في نياوران ‘ وفجأة جاءنا أحد خدامه وكان حزيناً وقال لوالدتي : سيدي00 سيدي قد قبض عليه لقد رأيته لقد سافر عدة أميال ‘ كانوا يقذفونه بالحجارة00 لقد عذبوه وضربوه بالفلق ورجلاه تنزفان ‘ لقد كانت رجلاه عاريتين , أخذت منه عباءته , ثيابه ممزقه وتلتف السلاسل حول عنقه0 تحول وجه أمي إلي اللون الأصفر ‘ صارت شاحبة ‘ نحن الأطفال أصابنا الذعر ‘ لم يكن لدينا شيء نفعله إلاّ البكاء ‘ كل الأصدقاء والخدم تركونا خوفاً علي أرواحهم إلا واحداً من الخدم اسمه أسفنديار وأمرأه وآحده 00 قصرنا والبيوت الملتحقة به كان قد سرق منها كل شئ الأثاث والكنوز0 ولحماية الخادم أسفنديار أرسلته آسيا خانم إلى مازندران, ونتيجة الحياة الصعبة اضطرت آسيا خانم إلى استئجار بيت صغير في مكان خفي من المدينة نقلت أولادها إليه " . (4)
وروى حضرة عبد البهاء في كتابه ( مقالة سائح) حادثة القبض على حضرة بهاء الله فقال: -
" كان بهاء الله إذ ذاك يصيف بقرية ( أفجة ) التي لا تبعد عن طهران إلا بمرحلة واحدة ولما ذاعت الأنباء وقررت الحكومة إجراء مقتضيات السياسة, اخذ كل إنسان من المعرفين بالنسبة يحتاط لنفسه إما بالانزواء في مخبأ أو بالرحيل عن الوطن0 وكان من عديد الطائفة ميرزا يحيى أخو بهاء الله فتستر بزي الدروشة وحمل الكشكول وركن إلى الهرب والفرار عن طريق رشت وضل ضلال الصحارى والجبال0 أما بهاء الله فأنة بكمال السكينة والطمأنينة ومنتهى الثبات والرزانة ركب من ( أفجة ) وورد على ( نياوران ) التي هي مقر الموكب الشاهانى ومقام الحرس المملوكي وعند وروده سارعوا إلى اعتقاله وأقاموا فوجا من الجند حراسا عليه وبعد التساؤل والتفاهم معه بقليل من الأيام سيروه مسلسلا مغلولا من شميران إلى سجن طهران0 وكانت هذه الشدة من فرط إلحاح الحاج علي خان الملقب ( بحاجب الدولة ) ولم يكن هناك أمل في نجاته "0 (5)
" وبينما كان حضرة بهاء الله مسجونا في طهران أصدر ناصر الدين شاه أوامره المشددة إلى رئيس وزرائه ميرزا أقا خان بأن يرسل جنودا إلى إقليم نور لاعتقال كل أتباع حضرة الباب في تلك الأنحاء وحيث أن رئيس الوزراء كان من نور وتربطه بحضرة بهاء الله صلة نسب بزواج ابنة أخيه من ميرزا محمد حسن الأخ الغير شقيق لحضرته فقد بذل كل جهد لحماية أقارب حضرة بهاء الله في نور إلا انه فشل0 فكان أن صادر الشاه أملاك حضرة بهاء لله وسوى منزلـه في" نور" بالأرض0 واستغل رئيس الوزراء الموقف ( طبقا للعادات والتقاليد السائدة في إيران في تلك الأيام ) وسجل بعض الأملاك بإسمه دون أن يدفع أية تعويضات0 كما نهب منزل بهاء الله الفاخر في طهران وافرغ من أثاثه الثمين واستولى رئيس الوزراء على بعض المخطوطات القيمة من بينها جزء من لوح لا يقدر بثمن مخطوط على الجلد منذ أكثر من ألف عام بخط يد الإمام على ومخطوطة نادرة من شعر "حافظ " كتبها خطاط مشهور0 ( كان محمد شاه يتلهف لتملك تلك المخطوطة ولكنه عندما علم أن عليه دفع عملة ذهبية واحدة ثمنا لكل بيت من أبيات القصيدة البالغ عددها اثني عشر ألف بيت تخلى عن الفكرة ) " (6)
* ويتفضل حضرة عبد البهاء قائلا أيضا : " مساء أحد الأيام في طهران, كنا نملك كل شئ وفى الصباح جردنا من كل شئ فلم يكن لدينا حتى الخبز لنأكله فوضعت والدتي في راحة يدي قليلا من الدقيق لأسد به رمقي بدل الخبز.. رغم ذلك كنا قانعين وشاكرين " (7)
وفي يوم من الأيام كانت العائلة في احتياج شديد لبعض المال لشراء بعض الحاجيات اللازمة, وبالرغم من الأخطار المحدقة التي تحوم حولهم من كل جهة اضطرت آسيا خانم إلى إرسال إبنها حضرة عبد البهاء إلي عمته والتي كانت تسكن في الطرف الآخر من المدينة ويحكي لنا حضرة عبد البهاء قصة ذلك اليوم : -
" كنت طفلا في التاسعة من عمري عندما هاجمتنا البلايا وأحاطت بنا الاضطهادات والشدائد من طرف الأعداء لقد رموا الكثير من الحجارة على بيتنا بحيث امتلأت أماكن كثيرة منه بالحجارة ولم يكن عندنا أحد غير أمي وأختي والأقا ميرزا قلي أخ حضرة بهاء الله ( النصف شقيق ).كان ميرزا قلي طفلاً ورعاه حضرة بهاء الله وشاركه النفي في كل الأماكن00 فأخذتنا الوالدة من ( دروازة شميران ) إلى منطقة ( سنجلج ) وأدخلتنا في منزل أخر كي تحافظ علينا0 ومنعتنا أمنا عن الخروج من البيت إلى أن وصل بنا الحال إلى درجة من السوء بحيث ساءت المعيشة واضطرت في يوم من الأيام بأن تبعثـني إلى عمتي لطلب بعض الريالات وكان بيت عمتي في تكية الحاج رجب علي القريب من مسكن الميرزا حسن كج دماغ "الأنف المعقوف " فذهبت وأعطتني عمتي (خمسة) ريالات قامت بربطها في منديل0 وعند عودتي من التكية عرفني أبن الميرزا حسن وفى الحال نادى على الأولاد بأنني بابي وفوراً لاحقني الأولاد وركضوا ورائي وكنت بالقرب من بيت الحاجى ملا جعفر أستار آبادي فعندما وصلت إلى هناك فأخذت ملجأ في مدخل هذا البيت.. رآني إبن الحاجى ملا جعفر لم يصدني كما وأنه لم يمنع الأولاد عن مطاردتي.. بقيت هناك حتى جاء ظلام الليل..وعندما تركت المكان لاحقني الأولاد مرة ثانية ورموني بالحجارة ومع وصولي إلى دكان الأقا محمد حسن صندوقدار توقف الأولاد عن الجري ورائي وباختصار لما وصلت البيت كنت منهكاً ومرعوباً لدرجة أني وقعت مغمي عليّ فحملتني والدتي ووضعتني في الفراش لأنام "(
كم كان لتلك الأحداث أثرها القاسي على آسيا خانم ويمكننا أن نتصور مدى العذاب الذي عانته في تلك الفترة عندما تحكي بهية خانم عن أيام الشدائد التي مروا بها فتقول:
"إن والدي الحبيب والذي رُمِيَ في سجن ( سياه جال ) لمدة أربعة أشهر‘عانى كثيرا من قلة الطعام والماء فلم يكن يعطى للسجناء الأكل000 إلا أن والدتي دبرت إدخال الأكل والشراب إلى هذا السجن الموحش (المقزز) وكان الميرزا يوسف والمتزوج من عمة والدي وهو صديق للقنصل الروسي في طهران هو من يحمل الطعام إلى والدي في السجن0 وقد كانت العادة في تلك الأيام أن لا تقوم الدولة بتنفيذ حكم الإعدام بل تقوم بتسليم المتهم للشعب لتنفيذ الحكم فكان الجزار والحداد وصانع الأحذية يجدون الفرصة لتنفيذ حكم الإعدام عن طريق استعمال ابتكارات في التعذيب والانتقام وكانت الطبول تدق لجذب عامة الشعب لحضور تنفيذ حكم الإعدام ‘ وعندما كانت تنطلق تلك الأصوات كنا نلتف حول أمي فلم نكن على علم إذا كان المتهم الذي سوف ينفذ فيه حكم الإعدام والدنا الحبيب أم لا..فدائما كنا نفترض أنه والدنا...كانت والدتي مع كل تلك الأخطار المحدقة بنا تخرج لتستعلم عن أسم الشخص الذي نفذ فيه حكم الإعدام, كنت أرجف رعباً لإطلاعي على ما حدث للبابيين التي كانت والدتي تحصل عليها عبر الميرزا يوسف الذي يحضر المحاكم يومياً ليتعرف علي المتهمين ولذلك كان بإمكانه إعطاء بعض المعلومات المطمئنة عن حالة والدي وإزالة بعض القلق عنا وعن أمنا ولم يجرؤ أحد من الأصدقاء أو الأقرباء من زيارة والدتي خوفاً من الموت ولكن عمة والدي زوجة المرزا يوسف هي الوحيدة التي كانت تزورنا " 0 (9)
* وحكى حضرة عبد البهاء أيضا , وكان عمره يناهز الثماني سنوات فقال : - " كنا التجأنا إلى منزل عمنا ميرزا إسماعيل وكنت تجاسرت في بعض الأيام أن اخرج من المنزل واعبر الطريق لغاية السوق 00 وما كدت اخرج من العتبة حتى ازدحم حولي الأطفال من سني يصيحون ( بابي00 بابي ) ولعلمي بالذعر الذي أصاب الناس من الكبير والصغير من سكان العاصمة كنت أمر إلى منزلي بهدوء وسكون متجاهلا ندآتهم عمدا 00 وذات يوم كنت أمر وحدي في السوق أثناء عودتي إلى منزل عمى إذ نظرت خلفي وجدت فئة من الأولاد الرعاع ويصيحون مهددين ( بابي بابي ) ورأيت أحسن طريقه للخلاص من الخطر الذي يتهددني هو تخويفهم فعدت إليهم وهجمت عليهم بعزم أوجبهم على الهرب وهم خائفون وجلون ولم يبق منهم أحدا 00 وكنت اسمعهم يقولون على بعد ( إن البابى الصغير تتبعنا وسوف يذبحنا ) وإذ كنت أسير عائدا إلى المنزل سمعت رجلا يصيح بأعلى صوته : - " نعم ما فعلت أيها الغلام الشجاع فما قدر أحد من سنك أبدا أن يقاوم وحده هجومهم " ومنذ ذلك التاريخ لم يتجاسر أحد من أولاد الشوارع أن يعاكسني ولم اسمع أي كلمة جارحة تسقط من أفواههم " (10)
واستطاعت الأسرة أن تحصل على إذن بزيارة بهاء الله في سجن سياه وكان الطفل الصغير عباس هو من سمح له برؤية والده - الذي أحبه حبا عظيما - عند خروجه للرياضة اليومية فأثر هذا المنظر على فكر الفتى عبد البهاء وإحساسه المرهف بصورة لا يمكن نسيانها وظل يذكرها في ألم وأسى حتى آخر أيام حياته0
" كان حضرة عبد البهاء والخادم واقفين خارج السجن ويتمنيان رؤية حضرة بهاء الله 0 وكان الأطفال يلعبون ويضحكون بالقرب منهما, ولكن قلب حضرة عبد البهاء كان مهموما وهو يتأمل الباب الصغير المؤدي إلى داخل السجن المظلم0" (11)
* يتفضل حضرة عبد البهاء متذكرا:
" ذهبت لزيارة والدي في سجن سياه جال عندما كنت صغيرا بصحبة خادم أسود وبوصولنا أشار السجانون نحو جهة الزنزانة التي سجن فيها والدي فاقتربنا منها لنشاهد مكانا مرعبا مظلما لا تدخله الشمس, ومنحدرا تحت الأرض, ولصغر سني حملني الخادم على كتفيه وتوجهنا لدخول ممر ضيق يؤدى لداخل الزنزانة, كان علينا أولا هبوط سلم يقودنا إلى الأسفل ولم ننزل أكثر من درجتين حتى أصبحنا لا نرى شيئا من شدة الظلام إلا أن الخادم أستمر في طريقه نازلا وبينما نحن وسط السلم ولم ندخل الزنزانة بعد0 إذا بصوت الجمال المبارك يعلو من داخل الظلمات آمرا الخادم ( لا تدخله هنا ) وعلى الفور استدار الخادم وأعادني إلى فناء السجن, وجلسنا حوالي الساعة ننتظر خروج السجناء للراحة في الهواء الطلق, ثم ظهر السجناء مكبلين بالسلاسل بعضهم ببعض يمشون واحدا تلو الآخر من خلال تلك الفتحة الضيقة وهم بحالة يرثى لها, ثم لاح هيكل جمال القدم مقيدا مع بقية السجناء يسحب سلاسله الثقيلة بصعوبة وجهد.أحزنني وحز في نفسي ومزق فؤادي منظر والدي العزيز وهو في تلك الحالة ففقدت الوعي وسقطت مغشيا علّى " 0 (12)
وعندما أطلق سراحه من حبس سياه شال كانت آسيا خانم وأولادها مازالوا في مازندران , بينما نزل حضرته ضيفاً لمدة شهر عند شقيق رئيس الوزراء جعفر قلي خان0