منتديات عظمة هذا اليوم
عزيزي الزائر الكريم يسعدنا انضمامك للصفوة في منتديات عظمة هذا اليوم
ارجو الضغط على زر تسجيل ومليء البيانات
في حالة مواجهتك لاي مشكلة ارجو الاتصال فورا بالادارة على الايميل التالي
the_great_day@live.se

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتديات عظمة هذا اليوم
عزيزي الزائر الكريم يسعدنا انضمامك للصفوة في منتديات عظمة هذا اليوم
ارجو الضغط على زر تسجيل ومليء البيانات
في حالة مواجهتك لاي مشكلة ارجو الاتصال فورا بالادارة على الايميل التالي
the_great_day@live.se
منتديات عظمة هذا اليوم
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

يا إلهي أغث هؤلاء البؤساء، ويا موجدي ارحم هؤلاء الأطفال، ويا إلهي الرّؤوف اقطع هذا السّيل الشّديد، ويا خالق العالم أخمد هذه النّار المشتعلة، ويا مغيثنا أغث صراخ هؤلاء الأيتام، ويا أيّها الحاكم الحقيقيّ سلّ الأمّهات جريحات الأكباد،ع ع

بحـث
 
 

نتائج البحث
 


Rechercher بحث متقدم

اضف ايميلك ليصلك كل جديد Enter your email address

اضف ايميلك ليصلك كل جديد Enter your email address:

Delivered by FeedBurner


المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 38 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 38 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحث

لا أحد

أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 138 بتاريخ 2019-07-30, 07:24
إعلانات تجارية

    لا يوجد حالياً أي إعلان


    [/spoiler]

    أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم, أنت لم تقم بتسجيل الدخول بعد! يشرفنا أن تقوم بالدخول أو التسجيل إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى

    الرسالة المدنية لحضرة عبد البهاء 1

    اذهب الى الأسفل  رسالة [صفحة 1 من اصل 1]

    عاطف الفرماوى


    عضو ذهبي
    عضو ذهبي
    بسم الله الرّحمن الرّحيم

    بدائع الحمد والثّناء وجوامع الشّكر والمنّة لله الأحد الّذي ميّز الحقيقة الإنسانيّة من بين الحقائق الكونيّة كافّة وزيّنها بالعلم والنّهى اللّذين هما الكوكبان العظيمان في عالم الإمكان، فارتسمت بآثار تلك الموهبة العظمى ونتائجها في مرآة الكائنات صورٌ بديعةٌ في كلّ عصرٍ وانطبعت عليها نقوشٌ جديدةٌ في كلّ قرنٍ. فإنّك لو نظرت في عالم الوجود بالبصيرة الصّافية لرأيت أنّ هيكل العالم مزيّن من فيوضات الفكر والعلم في كلّ دور بزينةٍ ومتجلٍّ في كلّ طور بجلوة ومتباه بالمواهب الجديدة اللّطيفة، وآية الله الفرد الأحد الكبرى هذه -أي العقل والنّهى- قد سبقت كافّة الكائنات في الخلق وتقدّمت عليها في الشّرف وذلك مصداقًا للحديث النّبويّ «أوّل ما خلق الله العقل» وهي الّتي تشخص ظهورها في الهيكل الإنسانيّ منذ صدر الإيجاد.

    تعالى وتقدّس الله الّذي جعل العالم الظّلمانيّ غبطة العوالم النّورانيّة بفضل إشراقات أنوار هذه الموهبة الرّبانيّة. «وأشرقت الأرض بنور ربّها» ، وتعالى وتقدّس الله الّذي جعل الفطرة الإنسانيّة مطلع هذا الفيض الأبديّ «الرّحمن علّم القرآن خلق الإنسان علّمه البيان.»

    فيا أولي الألباب ابسطوا أكفّ التّوسّل إلى الله الفرد وتضرّعوا وابتهلوا إليه شكرًا على هذا الفضل الأعظم حتّى نتوفَّق في هذا العهد والعصر إلى بزوغ السّنوحات الرّحمانيّة وطلوعها من وجدان النّفوس الإنسانيّة كي لا

    تخمد تلك النّار الرّبانيّة الموقدة والمودعة في الأفئدة البشريّة. فلاحظوا بعين البصيرة أنّ هذه الآثار والأفكار والمعارف والفنون والحكم والعلوم والصّنائع والبدائع المختلفة المتنوّعة كلّها من فيوض العقل والمعرفة، وما من طائفة أو قبيلة ازدادت في هذا البحر اللّجِّيِّ تعمّقًا إلا وازدادت على جميع القبائل والملل تقدّمًا، وما عزّة أيّة ملّة وسعادتها إلاّ أن تشرق من أفق المعارف إشراق الشّمس «هل يستوي الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون» ، وما شرف الإنسان ومفخرته إلاّ في أن يصبح منشأ خير بين ملأ الإمكان، وهل من نعمة يمكن تصوّرها في عالم الوجود أعظم من أن يرى الإنسان نفسه -إذا ما نظر في نفسه- سبب اطمئنان الهيئة البشريّة وراحتها وسعادتها ومنفعتها بتوفيق الله؟ لا والله! بل ما من لذّة أتمّ ولا سعادة أكبر من هذه. فإلى متى نطير بجناح النّفس والهوى؟ وإلى متى نقضي الحياة في دركات الجهل منكوبين بالنّكبة الكبرى كالأمم المتوحّشة؟ وهب لنا الله العين لننظر بها في الآفاق ونتشبّث بكلّ وسيلة من وسائل الحضارة والنّبل، ومنَّ علينا بالسّمع حتّى إذا ما استمعنا إلى حكم العقلاء والعارفين اتّعظنا منها ومن ثم نشمّر عن ساعد الهمّة لنعمل بمقتضى تلك الحكم. ومنحنا الحواس والقوى الباطنة لنستغلّها في أمور البشريّة الخيريّة، وأصبحنا مميّزين بين أنواع الموجودات وأجناسها بعقل نافذ حتّى نقوم على الأمور الكلّيّة والجزئيّة والمهمّة والعاديّة بالاستمرار لكي نصان جميعًا في حصن العلم الحصين محفوظين، ونضع في كلّ حين أساسًا جديدًا ونصنع صنيعًا بديعًا ونروّجه لسعادة البشر. فما أشرف الإنسان وأعزّه إن هو قام بما يجب وبما يليق به، ثم ما أرذله وأذلّه إن قضى عمره الغالي منهمكًا في منافعه الذّاتيّة وأغراضه الشّخصيّة مغمضًا الطّرف عن منفعة الجمهور.

    لو جال الإنسان المدرك لحقائق الآفاق والأنفس بجواد همّته العالية في ميدان العدل والتّمدّن، لكانت السّعادة الإنسانيّة أعظم سعادة «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم» ، وليس دون شقاء البشر شقاء إن ظلّ هامدًا خامدًا جامدًا منهمكًا في الشّهوات النّفسانيّة فيهبط إلى أسفل دركات

    التّوحّش والجهالة بحيث يمسي أحطّ من الحيوانات الضّارة «أولئك كالأنعام بل هم أضلّ» «إنّ شرّ الدّواب عند الله الصّم البكم الّذين لا يعقلون» . ومجمل القول إنّه من الواجب أن نشدّ إزار الهمّة بكلّ غيرة وأن نتشبّث كلّ التّشبّث بأسباب طمأنينة عموم البشر وراحته وسعادته ومعارفه وتمدّنه وصنائعه وعزّته وشرفه وعلوّ منزلته حتّى تصبح أراضي الاستعدادات الإنسانيّة، بفضل زلال النّيّة الخالصة وسلسال الجهد والسّعي، منبتًا لرياحين الفضائل الذّاتيّة وشقائق حقائق الخصال الحميدة الخضلة النّضرة، وتغدو مغبوطة حدائق معارف الأسلاف، فتصير البقعة المباركة الإيرانيّة مركزًا لسنوح الكمالات الإنسانيّة في جميع المراتب وتصبح مرآة تنعكس فيها المدنيّة انعكاسًا عالميًا.

    وجوهر الحمد والثّناء يليق بمطلع العلم اللّدنّيّ ومشرق الوحي الإلهيّ وعترته الطّاهرة والّذي انتشلت أشعّة حكمته البالغة السّاطعة ومعارفه الكلّيّة بصورة خارقة للعادة سكّان إقليم يثرب والبطحاء المتوحشين من حضيض الجهل والغفلة إلى أوج العلم والمعرفة في زمن قليل، بحيث تألّقت نجوم سعادتهم ومدنيّتهم في فجر الإمكان وأصبحوا مراكز للفنون والعلوم والمعارف والخصائص الإنسانيّة.

    ومن المعلوم لدى أولي الأبصار أنّه لما استقرّ في هذه الأيّام رأي الملك السّديد على تمدين أهالي إيران وترقيتهم وطمأنينتهم وراحتهم وتعمير البلدان، وأراد بخالص رغبته أن يشمّر عن ساعد الهمّة بحميَّة بالغة لرعاية الشّعب، وإجراء العدالة فيما بينهم حتّى يضيء آفاق إيران بأنوار العدل إضاءة تحسدها عليها ممالك الشّرق والغرب، وتسري في عروق أهل هذه الدّيار وشرايين مواطنيها الرّوح العريقة السّابقة الممتازة، لهذا رأيت لزامًا عليّ أن أكتب لوجه الله موجزًا في بعض الموضوعات اللازمة شكرًا على هذه الهمّة الكلّية، محترزًا من ذكر اسمي حتّى يتّضح أنّه لم يكن لي قطّ من قصد سوى الخير. بل إنّه لما كنت أعتبر الدّلالة على الخير، عمل الخير بعينه، فإنّني بهذه الكلمات النّصحيّة أذكِّر أبناء وطني ناصحًا أمينًا لوجه الله

    والله الخبير شاهد على أنّه لا مقصد لي غير الخير الصّرف، لأنّ هذا الهائم ببادية محبّة الله قد بلغ عالمًا لا تصل إليه يد إطراء النّاس وتزييفهم أو تصديقهم أو تكذيبهم «إنّما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا» .
    يا أهل إيران سيروا قليلاً في رياض تواريخ العصور السّالفة وتأمّلوا وتفكّروا فيها مليًّا، عندئذ تبصرون عظم مشهدها بعين العبرة. كانت مملكة إيران في الأزمنة السّابقة بمثابة قلب العالم وكالشّمع المضيء بين الجمع منيرًا للآفاق، وكانت عزّتها وسعادتها مشرقتين من أفق الكون كالصّبح الصّادق، وكان نور معارفها منتشرًا ساطعًا في أقطار المشارق والمغارب، بلغت شهرة ملوك إيران حتّى مسامع مجاوري الدّائرة القطبيّة، وأخضع صيت سطوة ملك ملوكها ملوك اليونان والرّومان، وحيّرت حكمة حكومتها أعظم حكماء العالم، وصارت قوانينها السّياسيّة دستورًا لجميع ملوك القارات الأربع في العالم، وامتازت ملّة إيران عن ملل العالم بفتوحاتها، وتفاخرت بصفة التّمدّن والمعارف الممدوحة، وكانت في قطب العالم مركز العلوم والفنون الجليلة ومنبع الصّنائع والبدائع العظيمة، ومعدن الفضائل الحميدة والخصال الإنسانيّة، وقد حيَّر علم هذه الملّة الباهرة وفطنتها عقول سائر شعوب العالم، فأثارت فطنة هذه الطّائفة الجليلة وذكاؤها غبطة العالمين. فبغضّ النّظر عما جاء في التّواريخ الفارسيّة واندرج في متونها نرى في أسفار التّوراة الّتي هي اليوم كتاب مقدّس مسلَّم به عند كلّ ملل أوروبّا من دون تحريف، أنّه في أيّام قورش الّذي عرف في الكتب الفارسيّة باسم بهمن بن اسفنديار، امتدّت حكومة إيران من حدود الهند والصّين الدّاخليّة إلى أقصى بلاد اليمن والحبشة المنقسمة إلى ثلاثمائة وستّين إقليمًا. وكما ورد في تواريخ الرّومان، إنّ هذا الملك (قورش) الغيور الّذي قوّض - بجيشه الجرّار - بنيان حكومة الرّومان الّتي عرفت بالفتوح، وزلزل أركان حكومات العالم جميعًا، وبناءً على تاريخ أبي

    الفداء، وهو من التّواريخ العربيّة المعتبرة، استولى على الأقاليم السّبعة. وكما ورد في هذا التّاريخ وغيره من التّواريخ أنّ فريدون وهو أحد ملوك الأسرة البيشداديّة، والّذي حقًّا امتاز بالكمالات الذّاتيّة والحكم والمعارف الكلّيّة وبغزواته وفتوحاته العديدة المتتالية، فأصبح فريد ملوك السّلف والخلف، قد قسّم الأقاليم السّبعة بين أولاده الثّلاثة. ومجمل القول إنّه بناءً على تواريخ الملل المشهورة قد ثبت وتحقّق بأنّ أوّل حكومة تأسّست في العالم كانت حكومة إيران وأعظم عرش استقرّ بين الملل كان عرش إيران.

    فيا أهل إيران! يجب أن نفيق الآن لمحة من سكر الهوى ونصحو من الغفلة والكسل وننظر بعين الإنصاف، أتقضي غيرة الإنسان وحميّته بأن يصبح هذا الإقليم المبارك -الّذي كان منشأ تمدّن العالم ومبدأ عزّة بني آدم وسعادتهم ومثار غبطة الآفاق وحسد كلّ ملل الشّرق والغرب- يصبح اليوم موضع تأسّف كلّ القبائل والشّعوب؟ فتتّسم في تواريخ العصور الحاليّة بانعدام المدنيّة فيها وهكذا سيبقى اسمه منقوشًا على صفحة الأيّام إلى أبد الآباد؟ فبالرّغم من أنّ ملّته كانت أشرف الملل، إلاّ أنّه اليوم يقتنع بهذه الأحوال المؤسفة. وبالرّغم من أنّه كان أفضل الأقاليم جمعاء يعدّ اليوم أشدّ أقطار العالم جهلاً وأفقرها إلى المعارف من غفلته وقلّة سعيه واجتهاده. ألم يكن أهل إيران في القرون السّالفة عنوان دفتر العلم والعقل والمعرفة؟ ألم يشرقوا من أفق العرفان ويطلعوا كالنّيّر الأعظم بفضل الرّحمن؟ فكيف نكتفي الآن بهذه الحالة المملّة ونسلك سبيل أهوائنا النّفسانيّة، ونغضّ الطّرف عما فيه السّعادة الكبرى ورضاء الله وننهمك في أغراضنا الشّخصيّة ومنافعنا الذّاتيّة المذلّة؟ كان هذا الإقليم الجليل كالسّراج الوهّاج منيرًا بأنوار المعرفة وضياء العلوم والفنون وعلوّ المنزلة وسموّ الهمّة والحكمة والشّجاعة والمروءة، فأمسى اليوم نور إقباله كدرًا مظلمًا من الكسل والبطالة والخمود والفوضى وعدم التّرتيب وقلّة غيرة أهله وهمّتهم. «بكت السّموات السّبع والأرضون السّبع على عزيز ذلّ». ولا يظنّ أنّ أهل إيران هم أقلّ فطنة من غيرهم أو أحطّ منهم في الذّكاء الخلقيّ والدّهاء الجبلّيّ أو الإدراك

    والشّعور الفطريّ أو العقل والنّهى والعلم والاستعداد الطّبيعي، أستغفر الله بل إنّهم كانوا وما يزالون متفوّقين على كلّ القبائل والطّوائف من حيث القوى الفطريّة. وكذلك مملكة إيران فإنّها لعلى أعلى درجة من الجودة من حيث الاعتدال والمواقع الطّبيعيّة والمحاسن الجغرافيّة والقوّة النّباتيّة، إلاّ إنّه يجب التّفكر والتّعمّق وينبغي السّعي والجهد ويليق التّربية والتّشويق والتّحريض، ويلزم الهمّة الكاملة والغيرة التّامّة.

    نجد الآن قارّة أوروبّا وأكثر مواقع أمريكا قد اشتهرت بين قارّات العالم الخمس من حيث النّظام والتّرتيب والسّياسة والتّجارة والصّناعة والفنون والعلوم والمعارف والحكمة الطّبيعيّة، في حين كانت أممها وقبائلها في الأزمنة الغابرة أشدّ طوائف العالم توحّشًا وجهلاً وأكثر القبائل والأمم تكاسلاً، بل إنّها كانت تلقّب بالبرابرة وفي هذا اللّقب ما فيه من دلالة على الوحشيّة الخالصة. وفضلاً عن ذلك فمنذ القرن الخامس الميلاديّ حتّى القرن الخامس عشر -وهي الفترة الّتي يعبّر عنها بالقرون الوسطى- وقعت وقائع عظيمة وحوادث موحشة مدهشة متّسمة بالعنف والشّدّة بحيث جعلت أهل أوروبّا يعتبرون تلك القرون العشرة عصور التّوحش، بناءً على ذلك فإنّ أساس المدنيّة والإصلاح والتّرقي قد وضع في أوروبّا منذ القرن الخامس عشر الميلاديّ حيث حصلت لها المدنيّة المشهودة بجميع جوانبها وذلك إثر تشويق العقلاء وحثّهم، وتوسّعت نطاق دائرة المعارف وبذلت المساعي وأظهرت الهمّة والأقدام والغيرة.

    وأمّا اليوم، وبفضل الباري وتأييد مظهر النّبوّة الكلّيّة الرّوحانيّة، ضرب سلطان إيران العادل على آفاق ممالكها سرادق العدل، وفلق صبح النّوايا الخالصة الخيّرة السّلطانيّة من مشرق همّته، فأراد أن يضع أساس العدل والحق، ويشيد أركان المعارف والمدنيّة في هذه المملكة ذات المنقبة العظيمة، ويخرج جميع وسائل الرّقيّ من حيّز القوّة إلى مقام الفعل حتّى يصبح عصر السّلطنة هذا مثار حسد العصور السّابقة. وظلّ هذا العبد وأقرانه ساكتين حتّى الآن حيث لم نكن نلاحظ أنّ الزّعيم الّذي وضعت

    أزمّة الأمور في كفّ كفايته وأنيط إصلاح حال الجمهور بهمّته العاليّة يسعى كالوالد الحنون لتربية أهل مملكته وتوفير أسباب المدنيّة والرّاحة والطّمأنينة لهم كما ينبغي ويليق. ولم نكن نشاهد علائم تدلّ على رعايته للشّعب بالوجه المطلوب. غير أنّه عندما لاحظ أولو البصائر الآن أنّ جلالة السّلطان بذاته قد أمر، بمحض اختياره، بإقامة حكومة عادلة وتأسيس بنيان التّقدّم والرّقيّ لعموم أتباع الدّولة، دفعتني النّيّة الصّادقة لعرض هذا المقال.

    ومن المستغرب أنّه بدلاً من أن يقوموا جميعًا لشكر هذه النّعمة الّتي هي في الواقع من توفيقات ربّ العزّة، أو يطيروا بجناحي الامتنان والمسرّة إلى سماء الانشراح، أو يرفعوا أكفّ الدّعاء والابتهال إلى الله بأن تزداد هذه المقاصد الخيريّة الطّيّبة يومًا فيومًا، طفقت طائفة ترفع علم الشّقاق وأخذت في الشّكوى، وهم ممن أخلّت بعقولهم العلل وأضرّت بأفكارهم الأغراض الذّاتيّة، وحجبت نور رأيهم الأنانيّة، وكدّرت ضياء تصوّراتهم ظلمات المنفعة الشّخصيّة، وانصرفت همّتهم إلى الشّهوات النّفسيّة، وحوّلوا غيرتهم إلى التّنافس على وسائل الرّئاسة، وكانت شكواهم حتّى الآن هي أنّه لماذا لم يباشر السّلطان بنفسه النّفيسة بالاهتمام في خير العموم ولا ينصرف إلى ما يؤدّي إلى راحة الجمهور واطمئنان بالهم، وأمّا الآن وبعد مبادرته بهذه الهمّة الكبرى فإنّهم يعترضون اعتراضًا آخر. ويقول بعضهم ما هذه الأفكار إلاّ أفكارًا جديدة ابتدعتها الممالك البعيدة فهي منافية لمقتضيات أوضاع إيران الحاضرة وأحوالها القديمة، وفئة أخرى -جمعت حولها قومًا بائسين من الّذين لا علم لهم بأساس الدّين المتين وأركان الشّرع المبين ولا يملكون قوّة التّمييز- تقول هذه الفئة إن هي إلاّ قوانين بلاد الكفر فهي تغاير الأصول الشّرعيّة المرعيّة و«من تشبّه بقوم فهو منهم» . ويذهب قوم إلى أنّه لا بدّ من التّأنّي في إجراء أمثال هذه الأمور الإصلاحيّة، فلا يجوز التّعجيل فيها. ويرى حزب آخر أنّه يجب التّشبّث بوسائل تمكّن أهل إيران أنفسهم من إيجاد الإصلاحات السّياسيّة والعمليّة والمدنيّة التّامّة الكاملة

    اللازمة، فلا داعي للاقتباس من سائر الطّوائف. ومجمل القول إنّ كلَّ فريق يطير في فلك له.

    فيا أهل إيران، إلى متى الحيرة وإلى متى الذّهول؟ وإلام اختلاف الآراء وتضادّ الأفكار العقيمة وإلام الغفلة والجهالة؟ الآخرون صاحون ونحن أسراء نوم الغفلة! فجميع الملل تسعى في إصلاح أحوالها العامّة بينما كلّ واحد منّا واقع في فخّ هواه وهوس نفسه! وما زلنا نقع في كلّ حين في فخّ جديد. شهد الله أننّي لا أقصد من طرح هذه المطالب المداهنة أو جلب القلوب، ولا أنتظر مكافأة ماديّة قطّ، وإنّما أقول ابتغاء لمرضاة الله ملتجئًا إلى حمايته تعالى مغمضًا الطّرف عن العالم وأهله، «لا أسألكم عليه أجرًا» «إنّ أجري إلاّ على الله.»

    قصارى القول إنّ الّذين يقولون بأنّ هذه الأفكار الجديدة توافق حال الطّوائف الأخرى ولا تلائم مقتضيات أوضاع إيران الحاضرة أو مجرى أحوالها لا يلاحظون أنّ الممالك الأخرى كانت في القرون السّابقة على هذه الشّاكلة أيضًا، فكيف أصبح هذا التّرتيب والتّنظيم والتّشبّث بالوسائل المدنيّة سببًا لترقّي تلك الممالك والأقاليم؟ هل لحق بأهل أوروبّا الضّرر من التّشبّث بهذه الوسائل، أم أنّهم نالوا المنزلة الجسمانيّة العالية الكاملة؟ ومع أنّ أهل إيران عامّة ساروا عدّة قرون على النّهج المعهود وعملوا بالأصول المعتادة فماذا أفادوا، وماذا بدا من تقدّمهم؟ ولو لم تكن هذه الأمور قد وضعت موضع التّجربة لكان من الجائز أن يتشكَّك فيها بعض ضعاف النّاس، وهم أولئك الّذين خمدت شعلة العقل الهيوليّ النّورانيّة في زجاج فطرتهم، ولكنّ أمر هذه المدنيّة قد تناولته التّجربة مرارًا وتكرارًا في كلّ جزء من أجزاء صورها في الممالك الأخرى، وبلغت فوائدها من الوضوح بحيث أدركها كلّ غبيّ أعمى. فلنغمض عين الاعتساف ولْننظر بطَرْف العدل والإنصاف حتّى نلاحظ أيًّا من هذه الأسس المحكمة المتينة والأبنية الحصينة يخالف مقتضيات أوضاع إيران الحسنة، وينافي مستلزمات سياستها الصّالحة، ويناقض مصالح الجمهور المستحسنة ومنافعه العموميّة؟ أترى توسيع دائرة

    المعارف وتشييد أركان الفنون والعلوم النّافعة وترويج الصّنائع الكاملة من الأمور المضرّة لأنّها تنتشل أفراد الهيئة الاجتماعيّة من وهدة الجهل إلى أعلى أفق العلم والفضل؟ أم أنّ سنّ القوانين العادلة الموافقة للأحكام الإلهيّة الّتي تكفل السّعادة للبشر وتحفظ حقوق الهيئة العامّة بصيانتها القويّة وحريّة الحقوق لأفراد الأهالي بصورة عامّة مباين للفلاح ومناقض للنّجاح؟ أفهل يكون منافيًا لموازين العقل النّافذ أن يدرك الإنسان حوادث المستقبل الّتي ما تزال في حيّز القوّة وذلك ببعد نظره والأخذ بقرائن الظّروف القائمة حاليًّا ودلائل الأفكار العامّة السّائدة، ومن ثمّ يسعى ويجاهد في توفير الأمن للحال والاستقبال؟ أم أنّ التّشبّث بوسائل الاتّحاد مع الأمم المجاورة وعقد المعاهدات المتينة مع الدّول العظيمة، والمحافظة على العلاقات الودّيّة مع الدّول المتحابّة، وتوسيع دائرة التّجارة مع أمم الشّرق والغرب، وزيادة إنتاج ثروة المملكة الطّبيعيّة والعمل على إغناء الأمّة يعتبر من الأمور الّتي تكون عاقبتها وخيمة ومخالفة للرأي الصّائب ومنحرفة عن النّهج القويم؟ أم إنّ بنيان رعاية الشّعب يتزعزع لو منع حكّام الولايات والمقاطعات عن التّصرف في الأمور كيفما يشاؤون وحرموا عن الحريّة السّياسيّة المطلقة، وتقيّدوا بقانون الحقّ، وجعلوا تنفيذ أحكام القصاص للقتل والحبس وأمثالهما منوطًا بالاستئذان من البلاط الملكيّ المتّسم بالعدالة وذلك بعد إقرارها من طرف مجالس العدل القائمة في مقرّ سرير السّلطنة بعد التّحقيق من درجات جناية الجاني وقبح فعلته ومبلغ شقاوته ثم تنفيذ ما يستحقّه من القصاص بعد صدور الأمر العالي؟ أم إنّ إغلاق أبواب الرّشوة الّتي يعبّرون عنها اليوم بتعبير «الهديّة» أو «التّقدمة» سبب هدم بنيان العدل؟ أم إنّ السّعي في إنقاذ الجنود -الّذين هم في الواقع فدائيّو الدّولة والملّة وتتعرّض أرواحهم للموت في كلّ الأحيان- من الذّلّة الكبرى والمسكنة العظمى بترتيب مأكلهم ومشربهم وتنظيم ملبسهم ومسكنهم، وبذل الهمّة في تعليم ذوي المناصب العسكريّة الفنون الحربيّة، وإكمال المهمّات والآلات والأدوات الحربيّة، يعتبر من الأفكار السّقيمة؟ فإذا قال قائل بأنّ هذه الإصلاحات المذكورة لم تخرج بعد إلى حيّز الوجود كما ينبغي ويليق، فإنّه لو أنصف

    لرأى أنّ هذا القصور قد نتج عن عدم اتّحاد الآراء العامّة وقلّة همّة أكابر المملكة وقلّة غيرة أولي الأمر فيها. وإنّه لمن الواضح الثّابت أنّ الأمور لن تدور على محورها اللائق ما لم ينل الجمهور قسطه من التّربية، وتستقرّ الأفكار العامّة في أوضاعها الصّحيحة ويتطهّر ذيل عفّة أولياء الأمور بل وأصحاب المناصب الثّانويّة من شوائب الأحوال غير المرضيّة، وأنّ الإصلاح التّامّ المنشود لن يتجلّى ما لم تبلغ الأحوال من الانتظام والأمور من الضّبط والرّبط بحيث يجد الفرد نفسه عاجزًا عن أن يتجاوز عن مسلك الحقّ قيد شعرة حتّى ولو بذل الجهد الجهيد. وفضلاً عن ذلك فإنّ كلّ خير من شأنه أن يكون وسيلة لأعظم سعادة للعالم عرضة لسوء التّصرّف به. وحسن التّصرّف وسوؤه إنّما منوطان بدرجات أفكار الوجهاء والأعيان من الأهلين وتفاوت استعدادهم وتديّنهم وإحقاقهم للحقّ وعلوّ همّتهم وسموّ غيرتهم.

    والواقع أنّ حضرة السّلطان أجرى ما كان على نفسه، فإنجاز أمور العباد ورعاية مصالحهم أضحى اليوم في كفّ كفاية أفراد يجتمعون في المجالس، فإن تطرّز هؤلاء الأفراد بطراز العصمة وتزيّنوا بزينة العفّة، ولم يلوّثوا أذيالهم الطّاهرة بدنس الخبث ستجعل التّأييدات الإلهيّة هؤلاء الأفراد منشأ خير للعالم، فيصدر عن ألسنتهم وأقلامهم ما فيه مصلحة النّاس ويستضيء جميع مملكة إيران بأنوار عدل هؤلاء الأفراد الثّابتين الرّاسخين بحيث تحيط أشعّة تلك الأنوار العالم أجمع وليس هذا على الله بعزيز. وما عدا ذلك فلا شكّ أنّ النّتائج ستكون غير مقبولة، كما شوهد عيانًا في بعض مدن الممالك الأجنبيّة أنّه بعد تأسيس المجالس أصبح التئام ذلك الجمع سببًا لاضطراب الجمهور، وتلك الإصلاحات الخيريّة علّة للوقائع المضرّة. نعم إنّ إنشاء المجالس وتأسيس محافل المشورة هو أساس عالم السّياسة المتين وبنيانه الرّصين، ولكنّ هناك عدّة أمور تعدّ من مستلزمات هذا الأساس: أوّلها أن يكون الأعضاء المنتخبون متديّنين ومظاهر خشية الله وذوي همّة عاليّة وعفيفي النّفس. وثانيها أن يكونوا

    مطّلعين على دقائق الأوامر الإلهيّة، واقفين على الأصول المستحسنة المتقنة المرعيّة، عالمين بقوانين ضبط الأمور الدّاخليّة وربطها، مدركين للرّوابط والعلاقات الخارجيّة متبحّرين في الفنون المدنيّة النّافعة، قانعين بمواردهم الماليّة الخاصّة. ولا يظن أحد أنّه من الممتنع الصّعب وجود أمثال هؤلاء الأعضاء، فما من مشكل إلاّ تيسّر وما من صعب مستصعب إلاّ كان حلّه أهون من لمح البصر، وذلك إثر عناية الله وعناية مقرّبيه وهمّة أصحاب الغيرة العالية. وأمّا إذا كان أعضاء هذه المجالس على النّقيض من ذلك جهلة سفلة لا علم لهم بقوانين الحكم وسياسة البلدان والممالك ولا همّة لهم ولا غيرة لديهم يلتمسون منافعهم الذّاتيّة، فإنّ تأسيس المجالس لا يفيد فائدة ولا يثمر ثمرة، إلاّ أنّه لو أراد مسكين فقير الحصول على حقّه وجب عليه أن يسترضي كلّ أعضاء المجلس بعد أن كان يقدّم الهديّة إلى شخص واحد، وإلاّ لما أمكنه إحقاق حقوقه.

    ولو نظرتم نظرًا دقيقًا لتجلّى لكم أنّ العلّة العظمى للجور والفتور وعدم العدل والإنصاف أو انتظام الأمور إنّما هي من قلّة التّديّن الحقيقيّ وفقر ثقافة الجمهور؛ ذلك بأنّ الأهلين إذا كانوا متديّنين، ماهرين في الكتابة بارعين في القراءة، ثم حصلت لهم مشكلة يرفعون شكواهم إلى حكومتهم المحلّيّة أوّلاً، فإذا رأوا أمرًا مخالفًا للعدل والإنصاف، وشاهدوا من مسلك الحكومة ما ينافي رضاء الباري ويخالف عدل الملك يرفعون قضيّتهم إلى المجالس العليا ويبيّنون فيها انحراف الحكومة المحليّة عن مسلك الشّرع المبين المستقيم، فتطلب المجالس العدليّة صورة للتّحقيق من الجهة المعنيّة. ولا شكّ في أنّ العدل والإنصاف سيشملان ذلك الشّخص. وأمّا اليوم فإنّ أكثر الأهلين فاقدو اللّسان الّذي يظهرون به مقاصدهم وذلك لقلّة ثقافتهم، وكذلك الأشخاص الّذين هم من وجهاء القوم وأكابرهم في أنحاء البلاد، ولمّا كانوا لم يرتقوا إلى درجات المعارف العالية -وهم في باكورة هذه المؤسّسات الجديدة والتّشكيلات الحديثة- لم يتذوّقوا بعد لذّة إحقاق الحقّ وبسط العدل، ولم يرتشفوا من معين الطّويّة الصّادقة والنّيّة

    الخالصة، ولم يدركوا حقّ الإدراك أنّ عزّة النّفس وعلوّ الهمّة والمقاصد الكريمة والعصمة الفطريّة والعفّة الخلقيّة هي أعظم شرف للإنسان، وأكبر سعادة كلّيّة للعالم، بل يحسبون أنّ النّيل من الحظّ الأوفر والوصول إلى العظمة لا يمكن إلاّ عن طريق جمع الزّخارف الدّنيويّة بأيّ نحو كان.

    والآن لا بدّ للإنسان من قليل من الإنصاف حتّى يتفكّر ويرى أنّ ربّ الورى خلقه بفضله وموهبته الكبرى، وشرّفه بخلعة «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم» فجعله يتنوّر بالتّجلّيات الإلهيّة من صبح الأحديّة وأصبح منبع الآيات الإلهيّة، ومهبط الأسرار الملكوتيّة، واستنار في فجر الخليقة بأنوار الصّفات الكاملة والفيوض القدسيّة، فكيف يلوّث الآن هذا الرّداء المطهّر بدنس الأغراض النّفسيّة ؟ ويستبدل الذّلّ الشّديد بهذه العزّة الأبديّة؟

    أتزعمُ أنّكَ جُرْمٌ صغيرٌ وفيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ

    ولو لم تكن الغاية هي الاختصار ومراعاة ما أنا بصدده من المقصد الأصليّ لكتبت طرفًا من المسائل الإلهيّة في بيان الحقيقة الإنسانيّة وعلوّ المنزلة البشريّة وسموّ منقبتها، ولكن دع هذا الآن إلى حين آخر.

    إنّ لأنبياء الله في عالم الكون الشّأن الأعظم ولهم المقام الأكبر الأرفع الأفخم في الظّاهر والباطن وفي الأوّل والآخر، ومع ذلك فلم يكن لهم نصيب في الظّاهر غير الفقر المحض، كما أنّ أولياء الحقّ والمقرّبين إلى الله الأحد اختصّوا بالعزّة الكاملة بالرّغم من أنّهم لم يفّكروا قطّ في الغنى الظّاهر، وكذلك الملوك العادلون -الّذين طبّق صيت عدلهم السّماويّ وسياستهم في حفظ البلاد آفاق الكائنات، وأحاط صوت عظمتهم ومراعاتهم حقوق الشّعب الأقاليم السّبعة- هؤلاء لم يكونوا يفكّرون في ترفهم الذّاتيّ وغنائهم الشّخصيّ الفاحش، بل كانوا يعدّون غنى جمهور الرّعيّة غناهم الشّخصيّ بعينه، ويعتبرون ثروة الأهلين وسعة عيش جميعها ازدهارًا لخزائن السّلطنة نفسها. لم يكن افتخارهم قطّ بالذّهب والفضّة بل بسداد الرّأي والهمّة العاليّة الّتي بها يتزيّن العالم، حالهم في ذلك حال الوزراء

    المكرمين والوكلاء المفخمين الّذين آثروا رضاء الحقّ على رضاء أنفسهم، ورفعوا علم المهارة الكاملة في فنون السّياسة على تلال الحكمة في الحكم، ونوّروا مجمع العالم بمصباح معرفتهم، وبدت من أحوالهم وأفكارهم ومسلكهم مخايل حبّ الدّولة ولاحت دلائل الاعتناء والاهتمام بالشّعب، وقنعوا برواتبهم الزّهيدة، وكانوا يشتغلون ليل نهار بتمشية مهام الأمور وإيجاد وسائل ترقية الجمهور، وجعلوا دول العالم تطيع دولتهم بفكرهم الثّاقب ورأيهم الصّائب، كما جعلوا سرير سلطنتهم مركز رتق أمور الملل العظيمة، وفتق شؤون الأمم الجليلة، وتباهوا ببلوغهم أعلى مراتب الفخر الذّاتيّ وأسمى معارج الشّرف الفطريّ. وكذلك مشاهير العلماء الأجلاّء الّذين اتّصفوا بالفضائل العلميّة والخصال الحميدة، وتشبّثوا بعروة التّقى الوثقى، وتمسّكوا بذيل الهدى وتوسّلوا به، وارتسمت على مرآة خيالهم صور المعاني الكلّيّة، واقتبست زجاجة تصوّرهم من شمس المعارف العامّة، وانكبّوا في اللّيالي والأيّام على التّدقيق والتّحقيق في العلوم النّافعة، واهتمّوا بتربية النّفوس المستعدّة وتعليمها، ولا شكّ في أنّ الكنوز الّتي حازها الملوك بمهبّ من الرّيح لم تكن تعدل في مذاق عرفانهم بقطرة من زلال المعارف والبيان، ولا قناطير الذّهب والفضّة المقنطرة تساوي حلّ مسألة من المسائل الغامضة، إنّهم يعتبرون لذائذ الأمور المادّيّة لديهم بمثابة لهو الصّبيان ولعبهم، ويحسبون التّكلّف للزّخارف الزّائدة لائقًا بالأرذال الجاهلين، وهم يقتنعون بحبّات معدودات كالطّيور الشّكورة حتّى تغدو نغمات حكمتهم ومعارفهم محيّرة لأفهام فضلاء أمم العالم ومشاعر أجلاّئها. وكذلك العقلاء العظماء من الأهلين والوجهاء الخيّرين في الولايات والنّواحي -وهم أركان الحكومة- يعدّون علوّ منزلتهم وسموّ شأنهم وسعادتهم في حبّ الخير للنّاس والبحث عن وسائل عمران المملكة وثروة الرّعيّة وأسباب راحتها وطمأنينتها. انظروا مثلاً لو كان هناك في إقليم من الأقاليم شخص من أكابر القوم عاقلاً طاهر القلب متّصفًا بالفطنة الفطريّة متّسمًا بالذّكاء والدّراية الخلقيّة واعتبر ركنًا من أركان أهل ذلك الإقليم، ففيم تكون عزّته الكلّيّة وسعادته السّرمديّة وشرفه الدّنيويّ والأخرويّ؟ أفي مواظبته على الصّدق والاستقامة

    والغيرة والحميّة وابتغاء مرضاة الله واستمالة عطف السّلطان واسترضاء الأهلين؟ أم باهتمامه في قضاء ليله حافلاً بالعيش المهيّأ والمائدة المهنّئة ونهاره بالعمل لتخريب الوطن والبلاد وإحراق قلوب العباد؟ فيجعل نفسه مردودًا من عتبة ربّ الكبرياء، ومطرودًا من سدّة الملك العادل ومذمومًا، وذليلاً لدى جمهور النّاس، فوالله إنّ العظام البالية في القبور لخير من هذا الشّخص وأمثاله، إذ ما الجدوى وهم لم يتذوّقوا شيئًا من موائد الخصال الإنسانيّة السّماويّة ولم يرتشفوا قطرة من عين موهبة العوالم البشريّة الصّافية.

    ومن المعلوم أنّ الهدف من تأسيس هذه المجالس هو تحقيق العدل والحقّ بحيث لا مجال لإنكار ذلك، ولكنّ هذا منوط بما يمكن أن تبلغه همّة أركانها المنتخبة وأعضائها، فإذا هم وفِّقوا إلى النّيّة الخالصة تمّت لهم النّتائج المباركة والإصلاحات الّتي لا يرتقب حصولها، وما عدا ذلك أدّى وجودها دون ريب إلى تعويق الأمور وإهمالها واختلالها اختلالاً كلّيًّا.

    أرى ألف بانٍ لا يقوم بهادمٍ فكيف ببانٍ خلفه ألف هادم

    لقد كان مقصدي من هذه البيانات الّتي فصّلتها أن يتّضح على الأقلّ أنّ عزّة الإنسان وسعادته وعظمته ومنقبته وتلذّذه وراحته لم تكن بثروته الشّخصيّة، بل بعلوّ فطرته وسموّ همّته واتّساع معلوماته وحلّ مشكلاته فنِعمَ ما قال:

    عَلَيَّ ثيابٌ لو يُباع جميعها بفلسٍ لكان الفلسُ منهنَّ أكثرا
    وفيهنَّ نفسٌ لو يُقاس بهـا نفوسُ الورى كانت أجلَّ وأكبرا

    ويبدو لي أنّه لو يناط انتخاب الأعضاء المؤقّتين في مجالس الممالك المحروسة برضى الأمّة وانتخابها لكان أفضل، وذلك حتّى يتوخّوا العدل والإنصاف في الأمور بقدر الإمكان لئلاّ يسوء صيتهم وسمعتهم فيفقد النّاس ثقتهم فيهم.

    ولا يظنّ أنّ المقصود من هذه الكلمات ذمّ الغنى ومدح الفقر والحاجة، فالغنى ممدوح أشدّ المدح إن تسنّى ذلك بفضل الله للفرد وبسعيه واجتهاده عن طريق التّجارة والزّراعة أو الصّناعة، ثم أنفق في وجوه الخير، وبوجه
    خاصّ لو تشبّث عاقل مدبّر بوسائل لإثراء الأهلين وبلوغهم الغنى الكامل لما كانت همّة أسمى من هذه الهمّة حيث إنّه يعدّ من أكبر المثوبات عند الله، لأنّ عاقلاً ذا همّة عالية كهذا أصبح سبب راحة جمع غفير من العباد واطمئنان بالهم وسدّ حاجاتهم. أجل إنّ الثّروة والغنى ممدوحان إذا شملت الأمّة كلّها، أمّا إذا امتاز بعض الأفراد المعدودين بالغنى الفاحش وظلّ الباقون فقراء محتاجين بحيث لا يرون من ذلك الغنى أثرًا ولا ينالون منه ثمرًا، فثروة غنيّ كهذا كانت له سببًا للخسران المبين، ولكنه إذا أنفق ثروته في ترويج المعارف وتأسيس المدارس الابتدائيّة والمعاهد الصّناعيّة وتربية الأيتام والمساكين والمنافع العامّة الأخرى، لكان أعظم سكان الأرض عند الحقّ والخلق ولاعتبر من أهل أعلى العلّيّين.

    وأمّا الحزب الّذي يذهب إلى أنّ هذه الإصلاحات الجديدة والهيئات السّديدة مغايرة لرضاء الرّحمن قوّة وفعلاً ومنافية لأوامر المشرّع المختار ومخالفة لأساس الشّرع المتين ومباينة لسيرة حبيب ربّ العالمين فينبغي أن يتدبّروا قليلاً في وجوه هذه المخالفة.

    أتأتي مغايرتها بسبب الاقتباس من الملل الأخرى فيحصل بهذا الاقتباس التّشبّه و«من تشبّه بقوم فهو منهم»؟ فنقول أوّلاً: إنّ هذه الأمور الظّاهرة الجسمانيّة لهي من أسباب التّمدّن ووسائل المعارف، وفنون الحكمة الطّبيعيّة، وطرائق التّرقّي لأهل الحرف والصّناعات العامة، وعلّة ضبط مهامّ المملكة وربطها، فلا دخل لها بأساس المسائل الإلهيّة الكلّيّة ولا بغوامض حقائق العقائد الدّينيّة. فإذا قيل إنّ الاقتباس في هذه الأمور غير جائز أيضًا دلّ هذا القول على جهل القائلين وغباوتهم، أفنسوا الحديث المشهور «اطلبوا العلم ولو بالصّين» ؟ ولا شكّ أنّ أهل الصّين هم أبعد النّاس عن باب الله الأحد، لأنّهم من عبدة الأصنام الّذين هم غافلون عن عبادة الخبير العلاّم، أمّا أهل أوروبّا فهم على الأقلّ من أهل الكتاب المعترفين بالعزيز الوهّاب مصداقًا لصريح الآية «ولتجدنّ أقربهم مودّة للّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى.» وعلى هذا طلب العلم والمعرفة من ممالك أمّة الإنجيل جائز

    بل أوفق وأنسب، وما دام التّعلّم من عبدة الأصنام مقبولاً عند الله فلماذا يكون ذلك من أهل الكتاب مبغوضًا لديه عَزَّ وجَلَّ؟

    كذلك في غزوة الأحزاب تعاهد أبو سفيان مع بني كنانة وبني قحطان ويهود بني قريظة، وقام مع طوائف قريش جميعًا على إطفاء السّراج الإلهيّ الّذي أضاء في مشكاة يثرب، ولمّا كانت رياح الامتحان والافتتان تهبّ من ذلك الزّمان بقوّة شديدة من كلّ جهة مصداقًا لقوله تعالى «الم أحسب النّاس أن يُتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يُفتنون» ، وكان المؤمنون قلّة أمام الأعداء الّذين هجموا هجومًا عامًّا يريدون بذلك أن يغبّروا شمس الحقيقة المشرقة بغبار الظّلم والجور، عرض سيّدنا سلمان على مطلع الوحي الإلهيّ ومهبط تجلّيات الفيض اللاّنهائيّ أنّ أهل فارس يحفرون بأطراف المملكة خندقًا يحتمون به ويصونون به أنفسهم من الأعداء، فهو مفيد كلّ الفائدة لاتّقاء الهجوم المباغت. فهل قال منبع العقل الكلّيّ ومعدن الحكمة والعلم الإلهيّ إنّ هذا من عادات الممالك المشركة الكافرة المجوسيّة، فلا يجوز لأهل التّوحيد أن يتّبعوه؟ بل إنّه أمر الموحّدين جميعًا بأن يسرعوا في حفر الخندق، حتّى أنّه تناول بيده المباركة آلة الحفر وعاون أصحابه وأحبّاءه. وفضلاً عن هذا جاء في كتب جميع الفرق الإسلامية من تاريخيّة وغيرها والّتي صنّفها العلماء العظام والمؤرّخون الفخام، أنّه بعد إشراق نيّر الآفاق من مشرق الحجاز الّذي استنار الوجود كلّه بأشعّته السّاطعة وظهر التّغيير الكلّيّ والتّبديل الكامل في أركان العالم بنزول الشّريعة الجديدة الإلهيّة وتأسيس مباني الحكم الرّبانيّة نزلت الشّريعة المقدّسة السّماويّة في بعض أحكامها مطابقة لعادات أهل الجاهليّة المألوفة، من ذلك مراعاة حرمة الأشهر الحُرُم، وتحريم أكل لحم الخنزير، وإقرار الشّهور القمريّة وأسمائها، وغير ذلك هنالك كثير ممّا يُنقل عن الكتب بعينه وبعبارته كما يلي: «وكانت الجاهليّة تفعل أشياء جاءت شريعة الإسلام بها فكانوا لا ينكحون الأمّهات والبنات، وكان أقبح شيء عندهم الجمع بين الأختين، وكانوا يعيبون المتزوّج بامرأة أبيه ويسمّونه الضّيزن، وكانوا يحجّون البيت

    ويعتمرون ويحرمون ويطوفون ويسعَون ويقفون المواقف كلّها ويرمون الجمار، وكانوا يكبسون في كلّ ثلاثة أعوام شهرًا، ويغتسلون من الجنابة، وكانوا يداومون على المضمضة والاستنشاق وفرق الرّأس والسّواك وتقليم الأظفار ونتف الإبط، وكانوا يقطعون يد السّارق اليمنى». فهل يجوز الآن -والعياذ بالله- أن يخطر بالبال أنّ بعض أحكام الشّريعة الغرّاء قد اعتراها النّقص حين شابهت عادات أهل الجاهليّة الّذين هم منبوذو جميع الطّوائف؟ أم أنّه يمكننا أن نتصوّر أنّ الحقّ الغنيّ المطلق اتّبع الآراء المتّسمة بالكفر؟ نستغفر الله من ذلك، إنّ في ذلك لحكمة بالغة إلهيّة. أكان بعيدًا عن قدرة الحقّ وممتنعًا عليها أن تنزل الشّريعة المباركة من دون أن تشابه عادة من عادات الأمم الجاهليّة؟ لا، بل المقصود من هذه الحكمة الكلّيّة هو تحرير العباد من قيود التّعصّبات الجاهليّة، وعدم تفوّههم بمثل هذه الأقوال الّتي من شأنها اليوم أن تؤدّي إلى تبلبل أذهان البسطاء من النّاس وتشويش ضمائرهم، ولكنّ بعض النّاس الّذين لا اطّلاع لهم -كما هو حقّه- على حقائق الكتب الإلهيّة وجوامع الصّحف النّقليّة والتّاريخيّة سيقولون إنّ هذه التّقاليد والعادات إنّما هي من جلائل سنن الخليل عليه السّلام بقيت ورسخت بين أقوام الجاهليّة، وهي واردة في مدلول الآية المباركة «اتبع ملّة ابراهيم حنيفا» . غير أنّه من المسلّم به والمذكور في جميع كتب الفرق الإسلاميّة وصحفها أنّ احترام الأشهر الحرم والعمل بالأشهر القمريّة وقطع يمين السّارق لم تكن من سنن الخليل عليه السّلام. فضلاً عن هذا فإنّ التّوراة ما زالت بين أيدينا وفيها شريعة إبراهيم عليه السّلام فليراجعوها، ولا بدّ بعد ذلك سيقولون إنّ التّوراة محرّفة هي الأخرى مصداقًا للآية المباركة «يحرّفون الكلم عن مواضعه» ، مع أنّ التّحريف وقع في مواضع معلومة ذكرتها كتب العلم والتّفسير، ولو فصّلنا القول في هذه المسألة خرجنا عن المقصد الأصليّ من تأليف هذه الرّسالة لهذا كان الاختصار أولى.

    هذا وقد ورد في بعض الرّوايات الأخرى الحثّ على اقتباس بعض الأخلاق الحسنة والاعتبار ببعض الشّيم المرضيّة من الوحوش، فإذا كان

    تعلّم الأخلاق الحسنة من الحيوان الأبكم جائزًا فإنّ اقتباس العلوم المادّيّة واكتسابها من الملل الأجنبيّة أولى بالجواز، فهي -على الأقلّ- من نوع الإنسان الممتاز بالنّفس النّاطقة والقوّة المميّزة، فإذا قيل إنّ هذه الصّفات الممدوحة في الحيوان فطرة فطر عليها، فبأيّ حجّة يمكن أن يدلّل على أنّ أصول المدنيّة وأساس العلوم والحكمة الطّبيعيّة في الممالك كلّها غير موجودة بالفطرة ؟ «هل من خالق غير الله» قل سبحان الله.

    وكذلك تتبّع جميع العلماء الأفاضل الكاملين والفقهاء الأكابر المتبحّرين بعض الفنون الّتي بدأها وابتدعها حكماء اليونان من أمثال أرسطو وغيره من الحكماء، واعتبروا اقتباس معارف الحكمة كعلم الطّبّ والرّياضة والجبر والحساب من الكتب اليونانيّة سبب الفوز والفلاح، كما يتتبّع العلماء قاطبة فنّ المنطق ويدرسونه في حين أنّهم يعتبرون مؤسّسه من الصّابئة. ولقد صرّح أكثرهم بأنّه إذا برع عالم نحرير في فنون شتّى واقتدر عليها، ولم يدرس المنطق دراسة تامّة لم يعتمد على أقواله ولا إنتاجه الفكريّ ولا استنباطه في المسائل الكلّيّة اعتمادًا تامًّا.

    إذًا فقد اتّضح بهذه الدّلائل الواضحة وتبيّن بهذه البراهين اللاّئحة أنّ اكتساب الأصول والقوانين المدنيّة واقتباس المعارف والصّنائع العامّة -أو قل باختصار كلّ ما ينتفع به الجميع- من الممالك الأخرى جائز، وذلك كي تتّجه أفكار النّاس عامّة إلى هذه الأمور النّافعة وينهضون لاكتسابها وتنفيذها بالهمّة الكاملة حتّى يسود هذا الإقليم الطّاهر -بعونه تعالى- كلّ الأقاليم الأخرى في أقصر زمن.

    يا أيّها العقلاء تأمّلوا بعين العقل والتّدبير، أيمكن أن تقاس البندقيّة أو المدفع العاديّ ببندقية هنري مارتي ومدفع كروب؟ أيستمع طفل بسمع الرّضا والقبول إذا قال قائل إنّ هذه الأسلحة النّاريّة القديمة تناسبنا ولا داعي لاستيراد الأسلحة والآلات الّتي استحدثتها الممالك الأجنبيّة؟ أو يقال إنّه طالما ننقل أمتعتنا وبضائعنا من مملكة إلى مملكة على الدّولاب لسنا بحاجة

    إلى القاطرات، فأيّة ضرورة تدفعنا إلى التّشبّه بالأمم الأخرى؟ أيذعن صاحب العقل الواعي بمثل هذا الكلام؟ لا والله، اللّهم إلاّ إذا كنّا ننكر الأمور البديهيّة بسبب وجود أغراض نكتمها في قلوبنا. إنّ الممالك الأجنبيّة تقتبس من بعضها البعض رغم أنّها نالت المهارة الكاملة في الفنون والمعارف والصّنائع العموميّة، فكيف يجوز للممالك الإيرانيّة الّتي انحطّت إلى أقصى دركات الاحتياج أن تظلّ مهملة معطّلة؟

    إنّ العلماء الأكابر الّذين سلكوا السّبيل المستقيم والمنهج القويم، ووقفوا على أسرار الحكمة الإلهيّة، وأطّلعوا على حقائق الكتب المقدّسة الرّبانيّة، فتزيّنت قلوبهم المباركة بحلية التّقى، وأنارت وجوههم النّضرة بأنوار الهدى قد التفتوا إلى الاحتياجات الحاليّة، ونظروا إلى مقتضيات الزّمان، فهم لا شكّ يحثّون على التّمدّن كلّ الحثّ ويحضّون على تحصيل المعارف كلّ الحضّ «هل يستوي الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون» و«هل تستوي الظّلمات والنّور؟»

    إنّما العلماء سُرُج الهداية بين ملأ العالم، ونجوم السّعادة المشرقة اللاّئحة من أفق الطّوائف والأمم، إنّما هم سلسبيل الحياة للنّفوس الّتي أماتها الجهل والغفلة، ومعين الكمالات الصّافي للعطاش في بادية النّقص والضّلال، هم مطالع آيات التّوحيد المطّلعون على حقائق القرآن المجيد، هم الأطبّاء الحذّق لجسم العالم العليل، والتّرياق الفاروق الأعظم لهيئة بني آدم المسمومة، هم الحصن الحصين لمدينة الإنسانيّة والكهف المنيع للمضطرّين المضطربين في بيداء الجهالة «العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء» ولكنّ ربّ العالمين خلق لكلّ شيء علائم وآثارًا، وقدّر له محكًّا وامتحانًا، فالكمالات المعنويّة والظّاهريّة لازمة للعالم الرّباني، كما ينبغي له أن يتحلّى بحسن الأخلاق ونورانيّة الفطرة وصدق النّيّة والفطنة والذّكاء والفراسة والنّهى والعقل والحِجى والزّهد والتّقوى الحقيقيّ وخشية الله القلبيّة، وإلاّ فإنّه مثل الشّمع الّذي لا ضوء له مهما كان طويلاً وعريضًا كأعجاز نخلٍ خاوية وخُشُب مسنّدة. وقد ورد في الرّواية الصّحيحة «وأمّا من كان من العلماء صائنًا لنفسه حافظًا لدينه ومخالفًا لهواه ومطيعًا لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه» ولمّا كانت هذه الكلمات المشرقة جامعة لجميع الشّروط العلميّة فإنّي أبيّن هذه الرّواية المباركة بيانًا مجملاً.

    إنّ كلّ من لم يحرز هذه الشّؤون الرّحمانيّة، ولم يكن مُظهرًا لمدلول هذه الرّواية الصّحيحة تنقطع عنه نسبة العلم، ولا يعود لائقًا لأن يطيعه الموحّدون. إنّ أوّل شرط من هذه الشّروط المقدّسة هو أن يكون «صائنًا لنفسه»، من الواضح أنّ المراد لم يكن حفظ النّفس من البلايا والمحن الجسمانيّة، ذلك لأنّ كلّ الأنبياء وجميع الأولياء تعرّضوا لأعظم شدائد العالم، واستهدفوا لسهام بلايا الملل وأذى الأمم، فضحّوا بأنفسهم لخير النّاس، وأسرعوا إلى مشهد الفداء بالرّوح والفؤاد، وزيّنوا هيكل العالم برداء جديد من الفضائل الذّاتيّة والشّيم المرضيّة الاكتسابيّة وذلك بكمالاتهم المعنويّة والصّوريّة. ولكنّ المقصد الأصليّ الحقيقيّ هو الصّيانة من النّقائص الباطنيّة والظّاهريّة، والاتّصاف بأوصاف الكمال المعنويّ والصّوريّ. والعلم والفضل هما أوّل صفة من صفات الكمال، والجهة الجامعة لهذا المقام الأعظم الأقوم هي الوقوف التّامّ على غوامض المسائل الإلهيّة، والإحاطة بحقائق حكم القرآن السّياسيّة الشّرعيّة، ومحتويات سائر الكتب السّماويّة، والإلمام بضوابط ترقّي الملّة الباهرة وروابط تمدّنها، والاطّلاع على القوانين والأصول والرّسوم والأحوال والأطوار والقوى الماديّة والأدبيّة العاملة لدى الملل الأخرى في العالم السّياسيّ وفي الفنون العصريّة النّافعة وجامعيّتها، والتّتبّع في الكتب التّاريخيّة للملل والدّول في العصور السّالفة. ذلك لأنّه لو لم يقف العالم على محتويات الكتب المقدّسة، ولم يحط بالحكمة الإلهيّة والطّبيعيّة والعلوم الشّرعيّة والفنون السّياسيّة والمعارف العصريّة، ولم يطّلع على وقائع القرون السّالفة العظيمة عند الملل والدّول سيبقى عاجزًا حينما تستدعي

    الضّرورة، وهذا مناف لصفة الجامعيّة، فمثلاً إذا حاور أحد العلماء الرّبانيّين مسيحيًّا من دون أن يكون له نصيب من لحن القول في الإنجيل الجليل، فإنّ ما يبيّنه له من حقائق الفرقان لا يقع في سمع المسيحيّ موقع القبول قطّ، أمّا إذا رأى ذلك المسيحيّ أنّ هذا العالم أعلم بما لدى القوم من العلوم وبما يستند عليه، وأكثر إدراكًا لحقائق الكتب المقدّسة من قساوسة أمّة الإنجيل لقبل كلّ ما يبيّنه العالم طوعًا، إذ لا مفرّ له إلاّ الإقرار، مثله كمثل رأس الجالوت حين حضر بمحضر شمس فلك العرفان ونيّر أوج الهدايّة والإيقان الإمام الرّضا عليه السّلام، فلو لم يجب معدن العلم هذا على أسئلة رأس الجالوت بالأدلّة والبراهين المألوفة لديه لما أقرّ ولا اعترف بفضل الإمام وعظمته. وفضلاً عن ذلك يجب أن تكون للعالَم السّياسيّ قوّتان عظيمتان قويمتان، ألا وهما القوّة التّشريعيّة والقوّة التّنفيذيّة، أمّا مركز القوّة التّنفيذيّة فالحكومة، وأمّا مرجع القوّة التّشريعيّة فالعلماء النّبهاء، إذًا فكيف يمكن تصوّر فلاح الأمّة ونجاحها إن لم يكن هذا الرّكن الرّكين جامعًا وهذا الأساس المتين كاملاً؟ غير أنّه لمّا كان أمثال هؤلاء الأشخاص نادرين في هذه الأزمنة، وكانت الأمّة والحكومة في أقصى غايات الاحتياج من حيث تنظيم الأحوال، كان لزامًا أن تتأسّس هيئة علميّة يبرع كلّ جماعة من أعضائها في فنّ من الفنون المذكورة، ويتفكّرون في جميع احتياجات الحاضر والمستقبل بكلّ إقدام وجهد بليغ، حتّى تستقرّ الأمور في مستقرّ معتدل وترتكز في مركز ثابت. وذلك لأنّه لم يكن حتّى يومنا هذا للأحكام الشّرعيّة في المرافعات والمحاكمات مدار معين، إذ إنّ كلّ عالم من

    الرجوع الى أعلى الصفحة  رسالة [صفحة 1 من اصل 1]

    صلاحيات هذا المنتدى:
    لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى