الصعود ونهاية عصر البطولة المجيد
صعود حضرة عبد البهاء
إنتهى الآن عمل حضرة عبد البهاء العظيم, أَنْجِزت الرسالة التاريخية التي حَمّلَه إياها ولده منذ تسع وعشرين سنة خلت إنجازاً مجيداً, فكتب بذلك فصلا خالدا في تاريخ البهائي الأول وشارف على النهاية عصر البطولة المجيد من الدورة البهائية, ذلك العصر الذي إشترك فيه حضرة عبد البهاء منذ البداية, ولعب فيه دوراً فريداً, ولقد قاسى كما لم يقاس أحد من أبطاله العظام , وشهد من الفتوحات ما لم يشهده المبشر بالدين ولا مؤسس الدين0
وفى نهاية رحلاته الغربية الشاقة التي إستنزفت أخر دانق من قوته المضمحلة كتب يقول : - " أيها الأحباء سيأتي وقت أفارقكم فيه, لقد فعلت كل ما يجب على أن افعله, وخدمت أمر حضرة بهاء الله بقدر ما أوتيت من قوة, ولم أهدأ في حياتي لا ليلا ولا نهاراً, وأنى لأمل أن أرى الأحباء الأعزاء يتحملون مسؤوليات الأمر المبارك, أيام حياتي معدودة ولم يعد لي من سرور سوى هذا الأمل " 0 (1)
وفى لوح وجَّهه إلى أحباء أمريكا قبل صعوده بأيام قلائل أرخى العنان لحنينه المكبوت إلى مغادرة هذا العالم فقال: " لقد هجرت العالم وأهله 00 أضطرب في قفص هذا العالم إضطراب الطائر المُفَزَع يضرب بجناحيه وذنبه0 وفى كل يوم أحن إلى الطيران إلى ملكوتك 0 يا بهاء الأبهى ! إسقني كأس الفداء ونجنى "0 وقبل صعوده بستة أشهر تقريبا أنزل مناجاة تشريفا لأحد أقارب الباب فكتب فيها يقول:
" ربِّ قد وهن العظم منى وأشتعل الرأس شيبا وقد بلغت من العمر عتيا فما بقى لي حركة ولا سكون ولا قوة حتى أقوم بها على عبودية أحبتك الذين اخترتهم في باب أحديتك وإنتخبتهم لإعلاء كلمتك وإجتبيتهم لنشر نفحاتك، رب ربِّ عَجِّل في عروجي إلى عتبتك العليا وصعودي إلى النشأة الأخرى ووفودي على باب فضلك في جوار رحمتك الكبرى وورودي على شريعة عفوك وغفرانك في عالم لا يتناهى "(2)" نص عربي"
بعد وقوع عديد من المصائب والبلايا على مدى عمره المديد من قبل الأعداء سواء في داخل الأمر أو خارجه ووصول أخبار عن الوقائع المؤلمة لأحباء إيران, وسلوك المتعصبين من الحبس والقتل والتعذيب, أضعفت تلك الأحداث بالتدريج القوى الجسمانية لحضرة عبد البهاء بحيث لم يتحمل وطفح كيل الصبر, لذا قبل وقوع الصعود بعدة أشهر غالبا ما كان يتفضل في ألواحه المباركة وبياناته الشفهية للمسافرين والزائرين بإشارات لطيفة تحكى عن قرب صعود حضرته إلى الملكوت الأبهى0
* قبل الصعود بثمانية أسابيع أخبر أهل البيت بحلم رآه تفضل :
" رأيتني أقف في محراب مسجد عظيم مكان الإمام وفى تلك الأثناء أدركت أن عددا عظيما من الناس طفقوا يدخلون جماعة إثر جماعة فيزداد بهم عدد المصلين حتى أصبحوا جمعا غفيرا وإصطفوا من خلفي وفى وقفتي هذه أذنت فيهم بصوت مرتفع ثم خطر لي بغتة أن أخرج من المسجد, فلما وجدت نفسي خارجه فكرت : لماذا خرجت قبل إنتهاء الصلاة ؟ ولكني قلت لنفسي لا بأس. ما دمت قد أذَّنت للصلاة بصوت مرتفع فإن هذا الجمع الغفير سوف يؤدون الصلاة وحدهم "
وبعد أسابيع قليلة حين كان يقيم في غرفة منعزلة في حديقة منزله قص حلما آخر على من كان حوله قال:
" رأيت حلما وشاهدت الجمال المبارك يقبل علي ويقول لي أهدم هذه الغرفة" ولم يدرك أحد من الحاضرين دلالة هذا الحلم حتى صعد حضرته بعد ذلك بسرعة حينذاك أتضح لهم جميعا أن ما أريد بكلمة الغرفة إنما كان هيكل جسده" (3)
قبل شهر من صعوده كان دكتور سليمان رفعت بك أحد الأصدقاء العثمانيين موجودا في البيت المبارك حين وصلته برقية تبلغه عن وفاة أخيه بصورة مفاجئة, قال حضرة عبد البهاء في حين كان يواسيه:
" لا تحزن فإنه أنتقل من هذا الفضاء وأستقر في فضاء أعلى, وأنا أيضا سأغير مكاني قريبا لأن أيامي معدودة " (4)
* يحكى خادمه الوفي "إسماعيل أقا : - " قبل صعود مولاي العزيز بعشرين يوما كنت قريبا من الحديقة سمعت صوت حضرته ينادى أحد الأحباء القدماء وتفضل : - تعال لنستلذ معا من صفاء هذه الحديقة, أنظر كيف تكون روح الوفاء وماذا تفعل, هذا المكان الجميل النضير كان تلا من الحجر قبل عدة سنوات واليوم إخضرت وأنبتت الورود والرياحين, أتمنى أن يقوم الأحباء الأعزاء من بعدى متحدين بخدمة الأمر الإلهي وبإرادة الله سوف تكون كذلك." (5)
وقبل أسبوعين من صعوده تحدث إلى بستانيه المخلص في نغمة تشير إشارة واضحة إلى أنه يعلم اقتراب أجله قال : -
" لقد تعبت تعبا لا يوصف وبلغ بي الأمر مبلغه بحيث يجب أن أترك كل شئ وأفر أنني أعجز عن المشي من شدة الضعف " ومضى يقول: " ولقد أتفق لي في أواخر أيام الجمال المبارك أن وردت ساحته المقدسة يوما وتشرفت بدخول غرفة التحرير ونزول الآيات في البهجة فلاحظت أن الألواح والأوراق والآثار العديدة قد تبعثرت في أطراف الغرفة رزما رزما فشرعت على الفور في جمع تلك الأوراق فشاهدني الجمال المبارك وتفضل فقال: ماذا تفعل ؟ لا فائدة من جمع هذه الأوراق يجب أن اترك كل شئ وأرحل, وأنا الآن قد أتممت أعمالي ولست قادرا على تحمل ما هو أكثر من هذا, فيجب أن أترك كل شئ وأرحل "
وقبل ثلاثة أيام من الصعود كان جالسا في الحديقة واستدعاني وتفضل :-
" لقد وَهَنْت، أنا مَرضْتُ من شدة التعب أعطني أثنين من ثمار اليوسفي كي أطعمهم محض خاطرك, أطعت أمره وبعد أن تناولهما التفت إلى وقال لقد تناولتهما, ألديك ليمون حلو ؟ قلت بلى وقال أعطني عددا منها فكنت مشغولا بقطف الليمون الحلو من الشجرة وجدت حضرته تشرف عند الشجرة وتفضل: يجب أن أقطفها بيدي, بعد أن تناولها نظر قليلا وقال ماذا تريد بعد ذلك, ثم أشار بإشارة حزينة بيديه وفى غاية التأثر قال أنتهى الآن, أنتهى "
هذه الكلمات ذات معنى أثرت في روحي في كل مرة يرددها وكأن خنجرا يغمد في قلبى فهمت مقصد حضرته ولكن لم أتوقع أن تكون أيامه الأخيرة بهذا القرب " (6)
" كل هذه الإشارات كانت مقدمة, أتضح بعد ذلك بأن موعد قدره المحتوم وساعة خاتمة حياته الجسمانية وصعود روحه المقدسة كانت واضحة لحضرته كالشمس في رابعة النهار, ولكنه كي لا يسبب الحزن للأحباء وأهل البيت كان يكتم ذلك ويسلى خاطر الجميع. الشخص الوحيد الذي فهم تلك الإشارات وعرف قرب الصعود المبارك ولم يتحمل الفراق والهجران وفدى بنفسه هو جناب ميرزا أبو الحسن أفنان أبن جناب آقا سيد أبو القاسم أفنان. فقد كان جناب ميرزا أبو الحسن أفنان مشرفا في حضور حضرة عبد البهاء مدة من الزمن وقبل الصعود المبارك بتسعة أيام أغرق نفسه في بحر حيفا, وقام دكتور لطف الله حكيم وخسرو خادم البيت المبارك بانتشال جسده من ساحل البحر ووقت تشييع جنازته مشى حضرة عبد البهاء مسافة من الطريق حاملا زاوية من الصندوق على كتفه المبارك حيث دفن في الروضة الأبدية بحيفا وكان حضرة عبد البهاء يظهر رضاءه عنه بين الأحباء. (7)
" وطفق حضرة عبد البهاء حتى اليوم الأخير من حياته الأرضية يغدق المحبة التي كان يغدقها من قبل على الرفيع والوضيع على حد سواء, ويبذل المعونة التي كان يبذلها من قبل للفقير والمسكين, ويقوم بما كان يقوم به نحو دين والده من واجبات كانت ديدنه من أيام طفولته, وفى يوم الجمعة السابق لصعوده شهد صلاة الظهر في المسجد, رغم إعيائه, وفرق الصدقات من بعد ذلك على الفقراء كما كانت عادته, وأملى بضعة ألواح, كانت هي آخر ما انزل0 (
وعصر ذلك اليوم هيأ وسائل حفلة عرس خسرو خادم البيت المبارك كان حضرته أصر على أن يتم في ذلك اليوم وقدم إليه بعض النصائح, وفى يوم السبت بدأت آثار التعب على الهيكل المبارك تدريجيا وأحس بالحمى. صباح يوم الأحد 27 نوفمبر تحسنت صحته وقام بمغادرة الفراش0 لكنة كان غير قادر على مغادرة المنزل لذا أرسل بعد الظهر جميع الأحباء إلى مقام حضرة الباب ليحضروا الإحتفال الذي أقامه زائر فارسى بمناسبة ذكرى إعلان الميثاق, في الساعة الرابعة بعد الظهر تناول الشاي في حجرته مع أهل البيت وحَضَرَتّهُ الورقة العليا, ثم "إستقبل بحفاوته المواتية وَرِقة حاشيته مفتي حيفا ورئيس بلديتها ورئيس شرطتها في عصر ذلك اليوم نفسه رغم الإعياء المتزايد "0 (9)
" وفى الساعة الثامنة مساء تناول قدراً من الطعام وإستراح في الفراش في غاية الهدوء دون ظهور أثر من الحمى." وفى تلك الليلة, وهى آخر ليلة من حياته, إستفسر عن صحة كل فرد من أفراد عائلته وكذلك عن صحة الزوار والأحباء في حيفا قبل أن يأوي إلى فراشه "0 (10)
" في الساعة الواحدة والربع , صباحا نهض ومضى إلى منضدة في غرفته وشرب قليلا من الماء ثم عاد إلى فراشه, وبعد قليل طلب إلى إحدى إبنتيه اللتين سهرتا عليه أن ترفع الستائر الشبكية شاكيا من أنه يجد صعوبة في التنفس وأحضروا له شيئا من ماء الورد فشرب منه ثم إستلقى مرة أخرى فلما عرض عليه الطعام قال بوضوح : -" أتريدون أن أتناول شيئا من الطعام وأنا ذاهب ؟ ثم نظر نظرة غريبة إلى الجميع وكان وجهه هادئا جدا, تخيل الجميع أنه دخل في نوم عميق, رفت روحه المقدسة بجناحيها صاعدة إلى مقرها الأبدي إلى عالم الملكوت, لتنضم بعد حين طويل, إلى مجد أبيه المحبوب, وتتذوق سعادة الاتحاد معه اتحادا دائما0 " (11)
حدث الصعود المبارك ليلة الاثنين الثامن والعشرين من نوفمبر 1921م في الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل. وإنتشرت أنباء صعوده المفاجئ غير المتوقع إنتشار النار المستشرية في كل أرجاء المدينة وطارت في الحال عبر أسلاك البرق إلى أنحاء المعمورة القصية فما لبث الحزن أن صعق جامعة أتباع حضرة بهاء الله في الشرق والغرب, وأبلغت الورقة العليا خبر هذه الفاجعة العظمى إلى إيران :
" قد صعد إلى الملكوت الأبهى عبد البهاء "
ورقة عليا
وإنهالت الرسائل من القاصى والداني, من الرفيع والوضيع عن طريق البرق والبريد حاملة إلى العائلة الثكلى الملتاعة عبارات التمجيد والإخلاص والحزن والرثاء0
أبرق ونستن تشرشل وزير المستعمرات البريطانية إلى السيد هربرت صامويل المندوب السامي في فلسطين على الفور مكلفا إياه أن " يبلغ الجامعة البهائية بإسم حكومة جلالة الملك عزاءها ومشاطرتها الأحزان"0
"وأبرق الفيكونت اللنبى المندوب السامي في مصر إلى المندوب السامي في فلسطين راجيا إياه أن " يبلغ أقارب المرحوم السير عبد البهاء عباس أفندي والجامعة البهائية عزاءه الحار في فقدان الزعيم المبجل " 0
وكلف مجلس الوزراء في بغداد رئيس الوزراء السيد عبد الرحمن أن يبلغ " عزاءهم إلى أسرة صاحب الفضيلة عبد البهاء في مصيبتهم "0
وأرسل الجنرال كونجريف القائد العام للبعثة المصرية العسكرية إلى المندوب السامي في فلسطين رسالة يرجوه فيها أن " يبلغ أحر العزاء لأسرة المرحوم السير عباس البهائي "
وكتب الجنرال السير آرثر موتى حاكم فلسطين السابق فعبَّر عن حزنه وإحترامه العميقين له وإعجابه به وعن مواساته في الخسارة التي تكبدتها أسرته0 وكتبت شخصية من الشخصيات الممتازة في جو جامعة أكسفورد العلمي, وهو أستاذ مشهور وعالم جليل باسمه واسم زوجته فقال " إن الصعود وراء الحجاب إلى حياة أكمل وأتم لابد أن يكون عجيبا ومباركا على نحو خاص بالقياس إلى من سما بأفكاره وجاهد في أن يحيا حياة سامية هنا على الارض0(12)
أسهمت كثيرُ من الجرائد المختلفة أمثال التايمز اللندنية و الديلى ميل Daily Mail والمورنينج بوست Morning Post والنيويورك ورلد New York World ولوتان Le Temps والتايمز الهندية وغيرها من الجرائد الصادرة باللغات المختلفة وفى الأقطار المختلفة , بمقالات في تأبين ذلك الذي قدم لقضية الإخاء الإنساني والسلام العالمي هذه الخدمات الشهيرة الخالدة .
" وقد أرسل السير هربرت صموئيل " المندوب السامي " من فوره رسالة يفصح فيها عن رغبته في المشاركة في تشييع الجنازة لكي " أعبر عن إحترامي لعقيدته وتبجيلي لشخصه "
كما كتب فيما بعد .أما موكب الجنازة الذي سار صباح الثلاثاء والذي لم تشهد فلسطين لها مثيلا من قبل فقد إشترك فيه ما لا يقل عن عشرة آلاف نسمة تمثل كل طبقة ودين وجنس في هذه البلاد .
ولقد شهد المندوب السامي فيما بعد فقال " إجتمعت جموع غفيرة آسفة على موته ومستبشرة بذكرى حياته , وكذلك كتب السير رونالد ستورز حاكم القدس حينذاك فقال في وصف موكب الجنازة " لم أعرف قط تعبيرا أشد إتحادا عن الأسف والإحترام كذلك الذي أوحت به بساطة ذلك الموكب المطلقة " (13)