الحب والخير والجمال في حياة حضرة عبد البهاء
أعماله الخيرية
مهد المستر فليب المحامى بمدينة نيويورك بأمريكا تاريخه عن البهائية بالكلمة التي كتبها عن عباس أفندي وجعلها مقدمة كلامه فقال:
" نزلت في سياحتي الفلسطينية بمدينة عكاء في منزل عتيق يطل على شارع مبلط قليل الإتساع بحيث يتسنى للرجل النشيط أن ينظفه في لمحات قليلة تعلوه شمس فلسطين اللامعة المضيئة وعلى يمينه السور البحري القديم, والبحر الأبيض المتوسط 0
وفى ذات يوم ( بعد شهر أقمتة بذلك المنزل) بينما نحن جلوس وإذا بجلبة عظيمة وضجة وضوضاء على بعد ثلاثين قدما منا ففتحنا النافذة فوقع نظرنا على جملة أناس بأثواب بالية مرقعة ممزقة 0 ثم نزلنا لنرى من هؤلاء فعلمنا أنهم من البائسين الجديرين بالإحسان إذ تراهم بين عميان ونحاف نحلين صفر الألوان وشيوخ طاعنين في السن ومن ذوى العكازات العاجزين عن المشي والضعاف الذين لا يمشون إلا بشق الأنفس ومن بينهم نساء مقنعات وبانكشاف المقنعات عرفنا انهن لم يسترهن إلا البؤس المؤلم ومنهن من يحملن أطفالا نحيلي الأبدان صفر الألوان ويبلغ هذا الجمع نحو مائة شخص سوى كثير من الأطفال وهم يكونون في مجموعهم جميع العناصر التي يراها المار في هذه الشوارع من شوام وعرب وزنوج وغيرهم 0 وما لبث هذا الجمع أن إصطفوا منتظرين فطفقنا ننظر ماذا ينتظر هؤلاء ؟0 وإذا بباب يفتح وخرج منه رجل متوسط القامة منتظم التركيب يلبس قفطانا أبيض وعلى رأسه العمامة ويبلغ من العمر نحو ستين سنة ويتدلى شعرة المشوب بالشيب على كتفيه عريض الجبهة الوضاحة العالية أقنى الأنف خفيف الشارب واللحية المستديرة التي غزا شعرها المشيب , ذو عينين زرقاوين واسعتين مع نظر ثاقب , وهيئة بسيطة إلا أن في انتظام حركاته ما يدل على الجمال والجلال0
خرج هذا الرجل وإتجه نحو الجميع وبوصوله إليهم أخذ يحييهم بألفاظ لا نفهمها ولكن ما يرى من هيئته ينم عن رقة وشفقة ثم وقف في زاوية ضيقه من الشارع وأشار إليهم بالإقبال عليه فالتفوا حوله إلتفاف السوار بالمعصم إلا انه كان يبعدهم عنه بلطف ويدعوهم بالمرور أمامه واحداً واحداً وكلما مر عليه رجل من القوم رأيت يده إليه ممدودة حيث يضع بعض النقود وهو يعرفهم جميعا ويلاطفهم بوضع يده على وجوههم تارة وعلى أكتافهم ورؤوسهم تارة أخرى 0 ويوقف بعضهم ويستعلم عن حاله ويحيى أحد العبيد المتقدمين في السن والإستعلام منه عن أمره ببعض عبارات رقيقة فيبدو السرور على وجه الرجل وتظهر ثناياه البيضاء من وجهه الابنوسى عند الجواب وتارة يوقف إحدى السيدات ويلاعب طفلها بشفقة عظيمة وحين مروره عليه وتقبيل بعضهم يديه يحييهم جميعا بقوله ( مرحبا مرحبا ) وعلى هذا النحو يمر الجميع0
وكان صاحبنا الملقب " بأبي الفقراء " متبوعا بجملة رجال يلبسون الطرابيش الحمر ويظهر على وجوههم الحنان والبشر وكانوا وقوفا بالقرب منه ولهم يد في تنظيم هذا الجمع0 فلما قفل راجعا تبعوه مع غاية الاحترام حيث يتأخرون عنه مسافة وكلما أرادوا نداءه دعوه بلفظ (المولى ) 0
ويمكنك أن ترى هذا المنظر بشوارع عكاء في أي يوم من أيام السنة وله نظائر مماثلة له لكنها لا تحدث إلا في إبتداء الشتاء حيث يتألم الفقراء 0 ويمكنك ( لو دلك إنسان على الزمان والمكان ) أن ترى فقراء عكاء مجتمعيـن في أحد حوانيت بائعـي الملابـس ليستلم كل منهم رداء من ( المولى) وهو يلبس أغلبهم بنفسه وخصوصا العجزة والمقعدين ويقيسها عليهم بيديه قائلا لهم ( مبروك ) 0
ويوجد بعكاء نحو خمسمائة أو ستمائة فقير يأخذ كل منهم رداءً جميلا منه كل عام 0 وفى أيام المواسم يزور الفقراء في بيوتهم ويتحدث معهم ويسألهم عن حالهم وعن صحتهم وراحتهم ذاكرا أسماء الغائبين منهم ويترك هدايا للجميع0 وليس فقط هؤلاء الشحاذون الذين يوجه عنايته إليهم بل ينتظم في سلك عنايتة أيضا أناس لا يمكنهم إراقة ماء وجوههم بذل السؤال وإنما يتألمون في نفوسهم كالذين لا يكفيهم مكسبهم اليومي كى يعول عائلاتهم 0 لمثل هؤلاء يرسل الخبز سراً بحيث لا تعرف يمينه ما تصنعه شماله0
الناس جميعا يعرفونه ويحبونه غنيهم وفقيرهم وصغيرهم حتى الأطفال في أحضان أمهاتهم 0 لو سمع أن احدهم ألم به المرض مسلما أو مسيحيا أو متدينا بأي دين كان يهتم بذلك كثيرا وتراه عندهم بجانب فراشهم كل يوم أو يرسل رسولا أمينا 0 ولو كان العليل فقيرا وإقتضى الحال طبيبا أرسل في طلب طبيب وفى إستدعاء الإسعافات الضرورية من الدواء 0 وإذا وجد أن سقف المكان أصبح غير محكم أو زجاج بعض النوافذ مكسورا وأن ذلك يهدد صحة أصحابه , أرسل في إستحضار أحد العمال للإصلاح ثم إنتظر تمام العمل ليتأكد من حصول المطلوب0
وإذا تعب أحدهم أو ألُقِيَ أحدُ أقاربه في أعماق السجون أو وقع تحت طائلة القانون أو حدثت له مشكلـة نأى عن حملهـا توجه في الحال إلى ( المولى ) ليستنجده أو يستمد منه النصيحة أو المعونة 0 نعم يحضر الجميع ليستمدوا منه النصيحة غنيهم وفقيرهم كأستمدادهم من أب شفوق لهم0 وأظن أن القارئ يتوهم في رجل جواد كهذا يعطى بلا حساب أنه غنى لا وَعْمر الحق ولو أنه كان من أغنى عائلة في الفرس ومع هذا فإن الرجل جرى عليه ما جرى على الجليلين ذلك أنه منذ خمسين سنة نفى وسجن هو وعائلتة وصودرت بعض أملاكه ونهب البعض الآخر ولم يبق له إلا القليل 00 فهو يقتصد من نفقاتة كي يتمكن من الإحسان 0 وملابسة عادة قطنية رخيصة الثمن ولا يسمح لعائلتة بمعيشة الرفاهية ولا يأكل سوى مرة واحدة في اليوم ويكفية شئ من الخبز والزيتون والجبن أما غرفته فصغيرة وعارية من الأثاث وليس فيها سوى حصير 0 ودائما يقول كيف أتمتع بنوم الرفاهية بينما الكثير من الفقراء ليس لهم مأوى لذا ينام على البلاط ويلف نفسه بعباءتة فقط"0 (1)
كانت طفولة عباس أفندي خارقة للعادة من كل الوجوه فلم يكد يناهز العقد الأول من سني حياته حتى بدا عليه من مخايل النجابة والفطنة الوقادة والشجاعة والثبات والشهامة مالا يكاد يظهر من أقرانه في هذا السن فلم يصبو إلى اللعب والتسلي كسائر الأولاد0 ونتذكر قصة سخائه العظيم في أيام طفولته الباكرة والتي وردت سابقا في الصفحة رقم (33) من هذا الكتاب0
* " ذهب حضرة عبد البهاء – ذات يوم – وهو صغير السن لمشاهدة أملاك والده من قطعان الخراف وهى ترعى في الجبال وكانت تعد بالآلاف 0 وترحيبا بضيفهم وسيدهم الصغير " عباس أفندي" جهز الرعاة وليمة عظيمة بمناسبة الزيارة 0 وفى نهاية اليوم وقبل أن يعاد "عباس" إلى بيته أخبر رئيس الرعاة أن العرف السائد والعادة الجارية هي ضرورة تقديمك هديه للرعاة بإعتبارك صاحب المال 0 ردا لما قدموه لك من كرم واضح أجاب عباس الصغير ببراءة الأطفال انه لا يملك ما يقدمه هديه لهم 0
لكن ذلك لم يقنع الرجل وأصر على أن يترك حضرته أي شئ هديه للرعاة إذ لا يمكن مخالفة العرف خاصة والرعاة ينتظرون كرمه 0 فما كان منه إلا انه أمر للرعاة بكل القطيع هديه لهم" 0
وعندما علم والده حضرة بهاء الله بما فعل ضحك كثيرا وتفضل معلقا : -
" يجب علينا حماية الاقا من نفسه 00 فسوف يهديها ذات يوم إن لم يجد بين يديه ما يهديه "0 (2)
" تتحدث لوا جتسنجر, إحدى البهائيات الأمريكيات القديمات , عن تجربة مرت بها في عكا حيث قامت برحلة لزيارة حضرة عبد البهاء 0 ففي يوم من الأيام قال لها حضرة عبد البهاء أنه مشغول ولا يستطيع زيارة صديق له كان فقيرا ومريضا فطلب منها حضرة عبد البهاء أن تذهب بدلا منه0 وطلب منها أن تجلب له الطعام وتعتني به كما كان يفعل وسرعان ما عرفت لوا العنوان وقامت بإنجاز ما طلبه منها حضرة عبد البهاء فورا0 وشعرت بالفخر من أن حضرة عبد البهاء قد عرض عليها بعضا من اعماله0 لكنها ما لبثت إلا أن عادت على الفور إلى حضرة عبد البهاء وهى مستغربة وقالت : " أرسلتني إلى مكان رهيب يا سيدي , وكاد يغمى علي من الروائح الكريهة والغرفة القذرة والحالة المخزية لذلك الرجل ومنزله حيث غادرت بسرعة قبل أن أصاب بأي مرض0
نظر لها حضرة عبد البهاء نظرة تأسف وصرامة وقال لها : " إذا أردت أن تخدمي الله فعليك أن تخدمي ذلك الرجل لأن في كل إنسان
يجب أن ترين صفة الله ومحبته "0 ومن ثم طلب منها أن تعود إلى منزل ذلك الرجل وتنظف البيت إذا كان قذرا وتغسل الرجل إن كان متسخا وان تطعمه أن كان جائعا0 وبهذه الطريقة علم حضرة عبد البهاء لوا كيف تقوم على خدمة ذلك الرجل0 (3)
* حكى أحد الزائرين لعكا في هذا الوقت:
" إن عادة عبد البهاء في صباح كل يوم جمعه أن يوزع المساعدات على المساكين, ويعطى من مخزونه الضئيل لكل شخص من المعوزين والمساكين, الذين يحضرون طالبين مساعدته شيئا قليلا 0 وفى صباح هذا اليوم جلس نحو مائة شخص في صف واحد على الأرض في الساحة التي يقع فيها منزل عبد البهاء, وهم مجموعة غريبة متنوعة من الرجال والنساء والأطفال – فقراء بائسون وفى منظرهم كالعرايا وأغلبهم عجزة وعميان وشحاذون – فهم حقا بؤساء ولا تفي العبارة بوصف فقرهم المدقع 0 وكانوا ينتظرون بلهف خروج عبد البهاء من الباب00 فيمر بينهم مسرعا, من واحد لآخر , وأحيانا ينتظر قليلا ليواسى مسكينا أو يشجعه ملقيا قطعة من النقود في كل كف ممدودة , أو يلمس – أحيانا – وجه طفل , أو يأخذ بيد عجوز تتعلق بذيل ردائه في وقت مروره, ويتفوه ببعض العبارات الرحيمة للعجزة والعمي من الرجال, ويسأل عن الضعفاء الذين يمنعهم ضعفهم عن الحضور لأخذ نصيبهم الضئيل , فيرسله لهم مع عبارات المحبة والتسلية"0 (4)
" وفى زمن الحرب قاست الأراضي المقدسة ويلات الحاجة والعَوَز والنقص الخطير في الإمدادات الغذائية ولم ينقذها سوى حكمة وتنبؤات حضرة عبد البهاء وبعد نظره الثاقب من وقوع هذه المحنة فكان حضرته " 000 يحسن إلى مئات المساكين يوميا بمبلغ مناسب من النقود وكان يعطيهم بالإضافة إلى النقود تموراً أو أشياء أخرى مثلها إن لم يوجد الخبز0وكان كثيرا ما يقوم بزيارة الأحباء في عكا لمساعدة المؤمنين ومواساة المساكين هناك 0 وفى زمن الحرب كان يجتمع كل يوم بالأحباء 0 وكانوا جميعا مسرورين مطمئنين هادئي البال بسبب تلك المساعدة أثناء تلك السنين المليئة بالمتاعب والأهوال"0 (5)
" وكان يخرج رغم الأخطار المحدقة به إلى الفقراء والمعوزين المحتشدين على بابه وفى فناء بيته صباح كل يوم جمعة ويفرق فيهم الصدقات بسخاء وإستمرار منحاه لقب " أبى الفقراء " ولم يكن ثمة شئ في تلك الأيام العاصفة يزعزع من ثقته, ولم يكن يأذن شئ من الأشياء أن يتدخل في عنايته بالمعوز واليتيم والمريض والمسكين ولم يكن ثمة شئ من الأشياء يمنعه من أن يزور أولئك الذين عجزوا أو خجلوا من تلقي معونته "0 (6)
صبياَن فى محنة
هذه القصة هي قصة شخصية .. رواها لي الصديق أنور نجم الدين لما حدث لوالده وأعمامه أبان ولاية حضرة عبد البهاء0 قصة لم تنشر من قبل ولا يعرفها سوى أصحابها وعدد قليل من الناس انطوت عليها صدورهم وقلوبهم 0قصة يمكن إن تعتبر عاديه إلى حد ما ولكن عندما نتأمل هذه الرواية بعين البصيرة الروحانية يتضح أمام أعيننا تلك العلاقة المبهرة وتلك الصلة الوثيقة التي كانت تربط قدامى الأحباء بحضرة عبد البهاء مركز العهد والميثاق ونلمس ذلك الحب الذي كانوا يكنونه لحضرته والطاعة والولاء التي كانوا يسدونها لمولاهم ونرى في المقابل الحب والعطف الذي كان يغدقه حضرة عبد البهاء لكل الأحباء في كل مكان رغم مشاغله ومتاعبه ..
" كان الشيخ محمد نعيمي رجلا موفور الثراء يشغل منصبا مرموقا في كردستان حيث كان يعمل كقاضي القضاة في إقليم كردستان .. وكان الشيخ قد تزوج من زوجتين وأنجب من كل منهما عددا من الأبناء قبل إن يؤمن بالأمر هو وزوجته الثانية بينما بقيت زوجته الأولى وأبنائها على موقفهم المعارض للدين الجديد . وحدث إن توفى الشيخ محمد نعيمي .. فانتهزت الزوجة الأولى المتسلطة الفرصة سانحة لتستأثر بأموال زوجها وأملاكه وحرمان الزوجة الثانية وأبنائها0 فتفتق عقلها الآثم عن فكرة شريرة , ودبرت اتفاقا مع البعض لقتل الوريثين الصغيرين ولكن إرادة الله لم تشئ لهما مثل هذا المصير القاسي0 فزع الولدين الصغيرين عندما همس صديق.. في أذن الولد اِلأكبر بما يدبر له ولشقيقة , وقررا الهرب في نفس الليلة الموعودة قبل منتصف الليل .. وخرجا هاربين في رحله عجلى سيرا على الأقدام , ودون إن يحملا ما يقيم أوداهما من مال أو طعام0 سار الصبيان يقطعان الفيافي والغابات ويعبران الجبال الوعرة الشاقة ولاقوا من المصاعب والأهوال ما تقشعر له الأبدان .. حتى وصلا أخيرا إلى مدينه بيروت .. وهناك توجها على الفور لمقابلة القنصل الإيراني الذي كان يعرف والدهم وأسرته0 واخبر القنصل الصبيان إنه يعرف شقيق لهم يعيش في القاهرة وعلى الفور أرسل الرجل رسالة إلى شقيقهم الشيخ محمد مرعي يبلغه بكل ما حدث ويطلب منه إن يستقدم إخوته للعيش معه بالقاهرة0 كان من المفترض ان يبعث الشيخ محمد برد إلى القنصل ليشكر له جهده فى مساعدة اخوته , لكنه بدلا عن ذلك كتب رسالة إلى حضرة عبد البهاء شرح له كل ما حدث وطلب مشورته فيما يفعل وعلى الفور أرسل حضرة عبد البهاء موافقته كي تلتئم شمل الأسرة , وحماية الصغيران في كنف شقيقهم الأكبر0 كما أرسل حضرته على الفور احد الأحباء إلى بيروت للقاء الصبيين وحجز لهما تذكرتين على إحدى البواخر المتجهة إلى مصر على نفقة حضرة عبد البهاء وأرسل للشيخ رسالة يقول له " انتظر أشقائك في بورسعيد " 0 ويبتسم حفيد الشيخ محمد نعيمى وهو يتذكر ما كان يرويه له والده من إن ثمن تذكرة " وابور البحر " فى ذلك الزمن كانت مائة وثمانون قرشا وهو ما كان يعتبر مبلغا كبيرا فى تلك الازمان
أعماله الخيرية
مهد المستر فليب المحامى بمدينة نيويورك بأمريكا تاريخه عن البهائية بالكلمة التي كتبها عن عباس أفندي وجعلها مقدمة كلامه فقال:
" نزلت في سياحتي الفلسطينية بمدينة عكاء في منزل عتيق يطل على شارع مبلط قليل الإتساع بحيث يتسنى للرجل النشيط أن ينظفه في لمحات قليلة تعلوه شمس فلسطين اللامعة المضيئة وعلى يمينه السور البحري القديم, والبحر الأبيض المتوسط 0
وفى ذات يوم ( بعد شهر أقمتة بذلك المنزل) بينما نحن جلوس وإذا بجلبة عظيمة وضجة وضوضاء على بعد ثلاثين قدما منا ففتحنا النافذة فوقع نظرنا على جملة أناس بأثواب بالية مرقعة ممزقة 0 ثم نزلنا لنرى من هؤلاء فعلمنا أنهم من البائسين الجديرين بالإحسان إذ تراهم بين عميان ونحاف نحلين صفر الألوان وشيوخ طاعنين في السن ومن ذوى العكازات العاجزين عن المشي والضعاف الذين لا يمشون إلا بشق الأنفس ومن بينهم نساء مقنعات وبانكشاف المقنعات عرفنا انهن لم يسترهن إلا البؤس المؤلم ومنهن من يحملن أطفالا نحيلي الأبدان صفر الألوان ويبلغ هذا الجمع نحو مائة شخص سوى كثير من الأطفال وهم يكونون في مجموعهم جميع العناصر التي يراها المار في هذه الشوارع من شوام وعرب وزنوج وغيرهم 0 وما لبث هذا الجمع أن إصطفوا منتظرين فطفقنا ننظر ماذا ينتظر هؤلاء ؟0 وإذا بباب يفتح وخرج منه رجل متوسط القامة منتظم التركيب يلبس قفطانا أبيض وعلى رأسه العمامة ويبلغ من العمر نحو ستين سنة ويتدلى شعرة المشوب بالشيب على كتفيه عريض الجبهة الوضاحة العالية أقنى الأنف خفيف الشارب واللحية المستديرة التي غزا شعرها المشيب , ذو عينين زرقاوين واسعتين مع نظر ثاقب , وهيئة بسيطة إلا أن في انتظام حركاته ما يدل على الجمال والجلال0
خرج هذا الرجل وإتجه نحو الجميع وبوصوله إليهم أخذ يحييهم بألفاظ لا نفهمها ولكن ما يرى من هيئته ينم عن رقة وشفقة ثم وقف في زاوية ضيقه من الشارع وأشار إليهم بالإقبال عليه فالتفوا حوله إلتفاف السوار بالمعصم إلا انه كان يبعدهم عنه بلطف ويدعوهم بالمرور أمامه واحداً واحداً وكلما مر عليه رجل من القوم رأيت يده إليه ممدودة حيث يضع بعض النقود وهو يعرفهم جميعا ويلاطفهم بوضع يده على وجوههم تارة وعلى أكتافهم ورؤوسهم تارة أخرى 0 ويوقف بعضهم ويستعلم عن حاله ويحيى أحد العبيد المتقدمين في السن والإستعلام منه عن أمره ببعض عبارات رقيقة فيبدو السرور على وجه الرجل وتظهر ثناياه البيضاء من وجهه الابنوسى عند الجواب وتارة يوقف إحدى السيدات ويلاعب طفلها بشفقة عظيمة وحين مروره عليه وتقبيل بعضهم يديه يحييهم جميعا بقوله ( مرحبا مرحبا ) وعلى هذا النحو يمر الجميع0
وكان صاحبنا الملقب " بأبي الفقراء " متبوعا بجملة رجال يلبسون الطرابيش الحمر ويظهر على وجوههم الحنان والبشر وكانوا وقوفا بالقرب منه ولهم يد في تنظيم هذا الجمع0 فلما قفل راجعا تبعوه مع غاية الاحترام حيث يتأخرون عنه مسافة وكلما أرادوا نداءه دعوه بلفظ (المولى ) 0
ويمكنك أن ترى هذا المنظر بشوارع عكاء في أي يوم من أيام السنة وله نظائر مماثلة له لكنها لا تحدث إلا في إبتداء الشتاء حيث يتألم الفقراء 0 ويمكنك ( لو دلك إنسان على الزمان والمكان ) أن ترى فقراء عكاء مجتمعيـن في أحد حوانيت بائعـي الملابـس ليستلم كل منهم رداء من ( المولى) وهو يلبس أغلبهم بنفسه وخصوصا العجزة والمقعدين ويقيسها عليهم بيديه قائلا لهم ( مبروك ) 0
ويوجد بعكاء نحو خمسمائة أو ستمائة فقير يأخذ كل منهم رداءً جميلا منه كل عام 0 وفى أيام المواسم يزور الفقراء في بيوتهم ويتحدث معهم ويسألهم عن حالهم وعن صحتهم وراحتهم ذاكرا أسماء الغائبين منهم ويترك هدايا للجميع0 وليس فقط هؤلاء الشحاذون الذين يوجه عنايته إليهم بل ينتظم في سلك عنايتة أيضا أناس لا يمكنهم إراقة ماء وجوههم بذل السؤال وإنما يتألمون في نفوسهم كالذين لا يكفيهم مكسبهم اليومي كى يعول عائلاتهم 0 لمثل هؤلاء يرسل الخبز سراً بحيث لا تعرف يمينه ما تصنعه شماله0
الناس جميعا يعرفونه ويحبونه غنيهم وفقيرهم وصغيرهم حتى الأطفال في أحضان أمهاتهم 0 لو سمع أن احدهم ألم به المرض مسلما أو مسيحيا أو متدينا بأي دين كان يهتم بذلك كثيرا وتراه عندهم بجانب فراشهم كل يوم أو يرسل رسولا أمينا 0 ولو كان العليل فقيرا وإقتضى الحال طبيبا أرسل في طلب طبيب وفى إستدعاء الإسعافات الضرورية من الدواء 0 وإذا وجد أن سقف المكان أصبح غير محكم أو زجاج بعض النوافذ مكسورا وأن ذلك يهدد صحة أصحابه , أرسل في إستحضار أحد العمال للإصلاح ثم إنتظر تمام العمل ليتأكد من حصول المطلوب0
وإذا تعب أحدهم أو ألُقِيَ أحدُ أقاربه في أعماق السجون أو وقع تحت طائلة القانون أو حدثت له مشكلـة نأى عن حملهـا توجه في الحال إلى ( المولى ) ليستنجده أو يستمد منه النصيحة أو المعونة 0 نعم يحضر الجميع ليستمدوا منه النصيحة غنيهم وفقيرهم كأستمدادهم من أب شفوق لهم0 وأظن أن القارئ يتوهم في رجل جواد كهذا يعطى بلا حساب أنه غنى لا وَعْمر الحق ولو أنه كان من أغنى عائلة في الفرس ومع هذا فإن الرجل جرى عليه ما جرى على الجليلين ذلك أنه منذ خمسين سنة نفى وسجن هو وعائلتة وصودرت بعض أملاكه ونهب البعض الآخر ولم يبق له إلا القليل 00 فهو يقتصد من نفقاتة كي يتمكن من الإحسان 0 وملابسة عادة قطنية رخيصة الثمن ولا يسمح لعائلتة بمعيشة الرفاهية ولا يأكل سوى مرة واحدة في اليوم ويكفية شئ من الخبز والزيتون والجبن أما غرفته فصغيرة وعارية من الأثاث وليس فيها سوى حصير 0 ودائما يقول كيف أتمتع بنوم الرفاهية بينما الكثير من الفقراء ليس لهم مأوى لذا ينام على البلاط ويلف نفسه بعباءتة فقط"0 (1)
كانت طفولة عباس أفندي خارقة للعادة من كل الوجوه فلم يكد يناهز العقد الأول من سني حياته حتى بدا عليه من مخايل النجابة والفطنة الوقادة والشجاعة والثبات والشهامة مالا يكاد يظهر من أقرانه في هذا السن فلم يصبو إلى اللعب والتسلي كسائر الأولاد0 ونتذكر قصة سخائه العظيم في أيام طفولته الباكرة والتي وردت سابقا في الصفحة رقم (33) من هذا الكتاب0
* " ذهب حضرة عبد البهاء – ذات يوم – وهو صغير السن لمشاهدة أملاك والده من قطعان الخراف وهى ترعى في الجبال وكانت تعد بالآلاف 0 وترحيبا بضيفهم وسيدهم الصغير " عباس أفندي" جهز الرعاة وليمة عظيمة بمناسبة الزيارة 0 وفى نهاية اليوم وقبل أن يعاد "عباس" إلى بيته أخبر رئيس الرعاة أن العرف السائد والعادة الجارية هي ضرورة تقديمك هديه للرعاة بإعتبارك صاحب المال 0 ردا لما قدموه لك من كرم واضح أجاب عباس الصغير ببراءة الأطفال انه لا يملك ما يقدمه هديه لهم 0
لكن ذلك لم يقنع الرجل وأصر على أن يترك حضرته أي شئ هديه للرعاة إذ لا يمكن مخالفة العرف خاصة والرعاة ينتظرون كرمه 0 فما كان منه إلا انه أمر للرعاة بكل القطيع هديه لهم" 0
وعندما علم والده حضرة بهاء الله بما فعل ضحك كثيرا وتفضل معلقا : -
" يجب علينا حماية الاقا من نفسه 00 فسوف يهديها ذات يوم إن لم يجد بين يديه ما يهديه "0 (2)
" تتحدث لوا جتسنجر, إحدى البهائيات الأمريكيات القديمات , عن تجربة مرت بها في عكا حيث قامت برحلة لزيارة حضرة عبد البهاء 0 ففي يوم من الأيام قال لها حضرة عبد البهاء أنه مشغول ولا يستطيع زيارة صديق له كان فقيرا ومريضا فطلب منها حضرة عبد البهاء أن تذهب بدلا منه0 وطلب منها أن تجلب له الطعام وتعتني به كما كان يفعل وسرعان ما عرفت لوا العنوان وقامت بإنجاز ما طلبه منها حضرة عبد البهاء فورا0 وشعرت بالفخر من أن حضرة عبد البهاء قد عرض عليها بعضا من اعماله0 لكنها ما لبثت إلا أن عادت على الفور إلى حضرة عبد البهاء وهى مستغربة وقالت : " أرسلتني إلى مكان رهيب يا سيدي , وكاد يغمى علي من الروائح الكريهة والغرفة القذرة والحالة المخزية لذلك الرجل ومنزله حيث غادرت بسرعة قبل أن أصاب بأي مرض0
نظر لها حضرة عبد البهاء نظرة تأسف وصرامة وقال لها : " إذا أردت أن تخدمي الله فعليك أن تخدمي ذلك الرجل لأن في كل إنسان
يجب أن ترين صفة الله ومحبته "0 ومن ثم طلب منها أن تعود إلى منزل ذلك الرجل وتنظف البيت إذا كان قذرا وتغسل الرجل إن كان متسخا وان تطعمه أن كان جائعا0 وبهذه الطريقة علم حضرة عبد البهاء لوا كيف تقوم على خدمة ذلك الرجل0 (3)
* حكى أحد الزائرين لعكا في هذا الوقت:
" إن عادة عبد البهاء في صباح كل يوم جمعه أن يوزع المساعدات على المساكين, ويعطى من مخزونه الضئيل لكل شخص من المعوزين والمساكين, الذين يحضرون طالبين مساعدته شيئا قليلا 0 وفى صباح هذا اليوم جلس نحو مائة شخص في صف واحد على الأرض في الساحة التي يقع فيها منزل عبد البهاء, وهم مجموعة غريبة متنوعة من الرجال والنساء والأطفال – فقراء بائسون وفى منظرهم كالعرايا وأغلبهم عجزة وعميان وشحاذون – فهم حقا بؤساء ولا تفي العبارة بوصف فقرهم المدقع 0 وكانوا ينتظرون بلهف خروج عبد البهاء من الباب00 فيمر بينهم مسرعا, من واحد لآخر , وأحيانا ينتظر قليلا ليواسى مسكينا أو يشجعه ملقيا قطعة من النقود في كل كف ممدودة , أو يلمس – أحيانا – وجه طفل , أو يأخذ بيد عجوز تتعلق بذيل ردائه في وقت مروره, ويتفوه ببعض العبارات الرحيمة للعجزة والعمي من الرجال, ويسأل عن الضعفاء الذين يمنعهم ضعفهم عن الحضور لأخذ نصيبهم الضئيل , فيرسله لهم مع عبارات المحبة والتسلية"0 (4)
" وفى زمن الحرب قاست الأراضي المقدسة ويلات الحاجة والعَوَز والنقص الخطير في الإمدادات الغذائية ولم ينقذها سوى حكمة وتنبؤات حضرة عبد البهاء وبعد نظره الثاقب من وقوع هذه المحنة فكان حضرته " 000 يحسن إلى مئات المساكين يوميا بمبلغ مناسب من النقود وكان يعطيهم بالإضافة إلى النقود تموراً أو أشياء أخرى مثلها إن لم يوجد الخبز0وكان كثيرا ما يقوم بزيارة الأحباء في عكا لمساعدة المؤمنين ومواساة المساكين هناك 0 وفى زمن الحرب كان يجتمع كل يوم بالأحباء 0 وكانوا جميعا مسرورين مطمئنين هادئي البال بسبب تلك المساعدة أثناء تلك السنين المليئة بالمتاعب والأهوال"0 (5)
" وكان يخرج رغم الأخطار المحدقة به إلى الفقراء والمعوزين المحتشدين على بابه وفى فناء بيته صباح كل يوم جمعة ويفرق فيهم الصدقات بسخاء وإستمرار منحاه لقب " أبى الفقراء " ولم يكن ثمة شئ في تلك الأيام العاصفة يزعزع من ثقته, ولم يكن يأذن شئ من الأشياء أن يتدخل في عنايته بالمعوز واليتيم والمريض والمسكين ولم يكن ثمة شئ من الأشياء يمنعه من أن يزور أولئك الذين عجزوا أو خجلوا من تلقي معونته "0 (6)
صبياَن فى محنة
هذه القصة هي قصة شخصية .. رواها لي الصديق أنور نجم الدين لما حدث لوالده وأعمامه أبان ولاية حضرة عبد البهاء0 قصة لم تنشر من قبل ولا يعرفها سوى أصحابها وعدد قليل من الناس انطوت عليها صدورهم وقلوبهم 0قصة يمكن إن تعتبر عاديه إلى حد ما ولكن عندما نتأمل هذه الرواية بعين البصيرة الروحانية يتضح أمام أعيننا تلك العلاقة المبهرة وتلك الصلة الوثيقة التي كانت تربط قدامى الأحباء بحضرة عبد البهاء مركز العهد والميثاق ونلمس ذلك الحب الذي كانوا يكنونه لحضرته والطاعة والولاء التي كانوا يسدونها لمولاهم ونرى في المقابل الحب والعطف الذي كان يغدقه حضرة عبد البهاء لكل الأحباء في كل مكان رغم مشاغله ومتاعبه ..
" كان الشيخ محمد نعيمي رجلا موفور الثراء يشغل منصبا مرموقا في كردستان حيث كان يعمل كقاضي القضاة في إقليم كردستان .. وكان الشيخ قد تزوج من زوجتين وأنجب من كل منهما عددا من الأبناء قبل إن يؤمن بالأمر هو وزوجته الثانية بينما بقيت زوجته الأولى وأبنائها على موقفهم المعارض للدين الجديد . وحدث إن توفى الشيخ محمد نعيمي .. فانتهزت الزوجة الأولى المتسلطة الفرصة سانحة لتستأثر بأموال زوجها وأملاكه وحرمان الزوجة الثانية وأبنائها0 فتفتق عقلها الآثم عن فكرة شريرة , ودبرت اتفاقا مع البعض لقتل الوريثين الصغيرين ولكن إرادة الله لم تشئ لهما مثل هذا المصير القاسي0 فزع الولدين الصغيرين عندما همس صديق.. في أذن الولد اِلأكبر بما يدبر له ولشقيقة , وقررا الهرب في نفس الليلة الموعودة قبل منتصف الليل .. وخرجا هاربين في رحله عجلى سيرا على الأقدام , ودون إن يحملا ما يقيم أوداهما من مال أو طعام0 سار الصبيان يقطعان الفيافي والغابات ويعبران الجبال الوعرة الشاقة ولاقوا من المصاعب والأهوال ما تقشعر له الأبدان .. حتى وصلا أخيرا إلى مدينه بيروت .. وهناك توجها على الفور لمقابلة القنصل الإيراني الذي كان يعرف والدهم وأسرته0 واخبر القنصل الصبيان إنه يعرف شقيق لهم يعيش في القاهرة وعلى الفور أرسل الرجل رسالة إلى شقيقهم الشيخ محمد مرعي يبلغه بكل ما حدث ويطلب منه إن يستقدم إخوته للعيش معه بالقاهرة0 كان من المفترض ان يبعث الشيخ محمد برد إلى القنصل ليشكر له جهده فى مساعدة اخوته , لكنه بدلا عن ذلك كتب رسالة إلى حضرة عبد البهاء شرح له كل ما حدث وطلب مشورته فيما يفعل وعلى الفور أرسل حضرة عبد البهاء موافقته كي تلتئم شمل الأسرة , وحماية الصغيران في كنف شقيقهم الأكبر0 كما أرسل حضرته على الفور احد الأحباء إلى بيروت للقاء الصبيين وحجز لهما تذكرتين على إحدى البواخر المتجهة إلى مصر على نفقة حضرة عبد البهاء وأرسل للشيخ رسالة يقول له " انتظر أشقائك في بورسعيد " 0 ويبتسم حفيد الشيخ محمد نعيمى وهو يتذكر ما كان يرويه له والده من إن ثمن تذكرة " وابور البحر " فى ذلك الزمن كانت مائة وثمانون قرشا وهو ما كان يعتبر مبلغا كبيرا فى تلك الازمان