رحيل ملاح القدس
الرحيل إلى استنبول
وفي الثاني من مايو 1863تحركت قافلة المنفيين0 في رحلة النفي الثانية إلى تركيا حيث: -
" ركب حضرة بهاء الله جوادا مطهما أصيلا كميت اللون من أكرم السلالات, كان خير ما استطاع احباؤة شراءه له 0 وخلف وراءه حشدا راكعا من المعجبين المشتعلين 0 وكتب النبيل الذي شاهد بعينيه هذا المشهد الخالد قال " ( ما أكثر الذين ركعوا للغبار الذي أثاره جواده وقبلوا سنابكه, وما أكثر الذين كانوا هم الإخلاص بعينه فالقوا بأنفسهم بين يدي الجواد مفضلين الموت على مفارقة محبوبهم 000 وصرح حضرة بهاء الله بقوله: " هو وحده ( أي الله ) الذي مكنني من أن أغادر المدينة ( بغداد ) بجلال لا ينكره إلا الجاحد اللئيم " 0 (1)
وبينما كان حضرة بهاء الله يهم بمغادرة حديقة الرضوان حان وقت أذان العصر وتعالى صوت المؤذن ينادى " الله اكبر " وتردد صدى هذا الأذان مرة أخرى في المنطقة كلها, فقد استقبل حضرته بمثل هذا الأذان والتكبير لدى وصوله الحديقة عصرا وغادرها على صوت تكبيرات آذان العصر أيضا0
كان موكب حضرة بهاء الله مهيبا جدا, فالقافلة تكونت من أربعة عشر هودجا, بالاضافه إلى الخيول والمرافقين من الأصحاب ومجموعة من عشرة جنود يمشون أمام القافلة كحرس ومرافقين للحماية والحفاظ على سلامة حضرته واصحابة ليصلوا بسلام إلى غايتهم 0
" كان حضرة عبد البهاء يمتطى حصانا عربيا أصيلا جميلا جدا شجاعا شرسا, لا يمكن لغير حضرة عبد البهاء امتطاؤه, فكان سهلا طيعا وديعا بيده0 ويسير بجانب العربة المباركة ويراقب خيمة والده ليل نهار"0(2)
" رافق حضرة بهاء الله إلى الاستانه أفراد عائلته ومنهم أقاي كليم وميرزا محمد قلى _ أخواه الوفيان – وستة وعشرون من أتباعه 00 والتحق بالقافلة أثناء الطريق النبيل الأعظم وميرزا يحيى 0 وممن رافق حضرة بهاء الله في سفره من أصحابه البارزين ميرزا أقا الكاشانى الذي لقبه حضرته فيما بعد بـ " اسم الله المنيب " 00 وعندما تشرف بمرافقة حضرة بهاء الله إلى الاستانه, فضل أن يقطع الطريق سائرا على قدميه بدل مرافقة مولاه راكبا 0 ويذكر حضرة عبد البهاء كيف كان مع المنيب يمشيان في كثير من الليالي على جانبي الهودج الذي يُقل حضرة بهاء الله 0 ومما كان يجلب السرور إلى قلبه ويعتز به حمله قنديلا يسير به أمام الهودج0(3 )
وهناك ميرزا جعفر اليزدى الذي كان يقوم بأعمال شاقة طيلة الرحلة وكان من علماء الدين المجتهدين 00 وعندما كان الأحباء يخلدون إلى الراحة أو ينامون أثناء توقف القافلة اعتاد ميرزا جعفر وحضرة عبد البهاء أن يذهبا إلى القرى المجاورة لشراء العلف واللوازم الأخرى للبغال والخيول وكان ذلك العمل يستغرق أحيانا بضع ساعات بسبب المجاعة التي ضربت المنطقة وأضحي الطعام صعب المنال0
* وفى ذكر ميرزا جعفر يروى حضرة عبد البهاء القصة التالية:
" كان السجن بالنسبة لـه حديقة أزهار, وزنزانته الضيقة فناء واسعا عطرا, وعندما كنا في الثكنات ( في عكاء) وقع فريسة مرض خطير الْزَمَهُ الفراش0 عانى كثيرا من مضاعفات المرض حتى أن طبيبة يئس من حالته وانقطع عن زيارته في النهاية إلى أن لفظ نفسه الأخير, عندها أسرع ميرزا أقا جان إلى حضرة بهاء الله بخبر الوفاة0 لم يكن نفسه قد توقف فحسب بل أن جسده أصبح مشلولا0 فتجمعت عائلته حوله يندبون ويذرفون دموع الحزن والاسى0 وأمرني الجمال المبارك قائلا : " اذهب إليه, واتل دعاء " أنت الشافي " وسترجع إليه الحياة0 أسرعت ووقفت بجانبه كان جسمه باردا وعلية علامات الموت, إلا انه بالتدريج اخذ يتحرك ببطء ثم استطاع أن يحرك أطرافه, وقبل مضى ساعة رفع رأسه وجلس منتصبا واخذ في الضحك وسرد النكات "0 (4)
" ورافق حضرة بهاء الله إلى الاستانة أتباع آخرون منهم أقا محمد صادق من أصفهان ومؤمن آخر متفان من أصفهان يدعى أقا محمد علي حظي برفقة حضرة بهاء الله إلى كل من أدرنه وعكا وأقا محمد علي الصباغ من يزد أما بالنسبة لجماعة المنفيين فلم يكن أحد يجيد التركية سوى عبد الغفار الأصفهاني, فقام بالترجمة آنذاك ومؤمن آخر مخلص يدعى محمد إبراهيم الأمير وهو من البقية الباقية بعد ملحمة نيريز00 واثنان من المؤمنين المخلصين رافقا الموكب المبارك متقدمين الهودج الذي كان يقل حضرة بهاء الله سائرين على الأقدام طوال الطريق إلى ميناء صامصون على البحر الأسود 0 هما اقا ميرزا محمود من كاشان وأقا رضا من شيراز كانا يعدان الطعام للمسافرين حيثما ألقت القافلة رحلها, وبالرغم من قسوة ظروف الرحلة والتعب والإعياء كانا يعملان على خدمة الأحباء حتى منتصف الليل من كل يوم بكل تفان وإخلاص 0 فإلى جانب طهي الطعام وغسل الصحاف كانا يُؤمَّنان الراحة والخدمة المناسبة لكل فرد 0 فكانا آخر من يستريح ليلا وأول من يستيقظ صباحا ليقوما بكل محبة وإخلاص بهذه الخدمة كل يوم خلال الرحلة من بغداد إلى الاستانة 0 كما رافق حضرته الدرويش صدق علي الذي توسل إلى حضرة بهاء الله أن يسمح له بمرافقة القافلة إلى الاستانة "0 (5)
كان حضرة عبد البهاء دائما يسبق القافلة ليحصل على مكان لتستطيع القافلة أن تخيم فيه خلال الليل0 فقلت ساعات راحته ونومه كثيرا, وبسبب صغر سنه أرهقه التعب المستمر" وللحصول على قليل من الراحة اعتاد طريقه معينة, فقد كان يعدو بحصانه لمسافة بعيده أمام القافلة, ثم يترجل من الحصان, ويناما على الأرض معا, فيضع آخى رأسه على رقبة الحصان ويغفو, وبمجرد اقتراب القافلة, يفيق الحصان ويهز صاحبة, ليوقظه وينهض لركوبه"0 (6)
* ووصف حضرة شوقي أفندي هذه الرحلة بالكلمات التالية:
" كانت القافلة تتكون من خمسين بغلا وعشرة فرسان عليهم قائدهم, وسبعة أزواج من الهوادج يظلل كل زوج منها أربع مظلات, فشقت طريقها مجتازة النجاد والوهاد والأحراش والوديان والمراعي التي تؤلف فيما بينها مناظر الأناضول الشرقية الخلابة " 0(7)
لم تكن الرحلة سهلة هينة حتى على الرجال الأقوياء0 وكانت الأعمال الروتينية اليومية تستهلك وقتا ثمينا وجهداً شاقا مرهقا من جماعة المنفيين المكدودة كعملية نصب الخيام ليلا وطيها وتحميلها على الجياد والبغال فجرا وجمع الحطب للتدفئة والطبخ والبحث عن المؤن والعلف للدواب وحراسة أفراد القافلة وتأمين متاعها المتواضع ضد اللصوص وقطاع الطرق خلاف عشرات الأعمال اليدوية البطيئة المرهقة وسط ظروف جوية عاصفة قاسية وبيئة جبلية وعرة تعج بالمخاطر0
" إن الذين قطعوا الصحارى والوديان والجبال في الشرق الأوسط على ظهور البغال والخيول يدركون مدى بطء السير وما يساور المسافر من ملل 0 وقد لا يصادف المسافر لأميال عدة أي اثر للحياة 0 ولم يكن بمقدور أفراد القافلة على الغالب أن يتكلموا مع بعضهم البعض بسهولة, وفى ظروف كهذه لا يجد المرء أكثر إنعاشا للروح من سماع صوت عذب يشدو بترتيل جميل 0 ذلك كان صوت المنيب الذي شنف الأذان بقصائد غنائية وأشعار متنوعة يتردد صداها في الحقول الواسعة والجبال المرتفعة من تركيا فكانت تجلب السعادة والراحة لكل من كانوا برفقة حضرة بهاء الله 0(
"وظلت كذلك إلى أن بلغت صامصون على البحر الأسود بعد مائة زائدة وعشرة أيام وكان حضرة بهاء الله يركب الجواد أحيانا, ويستريح أحيانا أخرى في هودجه الذي كان أصحابه يحفون به سيرا على الأقدام " (9)
* ويذكر حضرة عبد البهاء أن من بين الذين رافقوا حضرة بهاء الله إلى الاستانه كان السيد محمد الأصفهاني الذي اعتاد أن يتهم ميرزا يحيى مستنكرا سلوكه وتصرفاته, إلا أن رائحة النفاق والخيانة كانت تفوح من كلماته 0 وعندما شارفت قافلة حضرة بهاء الله مدينة الموصل ذكر السيد محمد لحضرة عبد البهاء انه شاهد ميرزا يحيى في المنطقة وسأل إذا كان من الممكن له دعوة ميرزا يحيى لمرافقته 0 وروى حضرة عبد البهاء انه عندما حضر ميرزا يحيى تظاهر بعدم معرفته لحضرة بهاء الله ومن معه من المسافرين وذلك نظرا لوجود بعض الغرباء وعرف نفسه على انه الحاج علي وانه عائد لتوه من مكة0 ثم بعد ذلك اخذ طريقه مع الركب مع حرصه الشديد ألا يظهر برفقة أحد خلال النهار, ولم يكن لينضم للأصحاب سوى ليلا لينام ويستريح وحده في خيمة خاصة 0 هكذا كانت رحلة ميرزا يحيى إلى الاستانة معظم الطريق وخلالها كان السيد محمد صديقه الوحيد المؤتمن وهو الذي طرده بهاء الله من جماعته فيما بعد 0
" بعد حوالي خمسين عاما على تلك الحادثة, وخلال زيارة حضرة عبد البهاء, لمدينة مونتريال في كندا 0 تذكر وهو جالس في عربته, أيام نفي والده إلى استنبول فتفضل: " رأينا ونحن في قافلتنا بمعية حضرة بهاء الله, خلال سفرنا إلى استنبول, جنديا عثمانيا على صهوة جواده, قادما من الجهة المقابلة, يمتطى حصانه بتكبر واضح 0 وحالما انتبه ميرزا يحيى إلى الجندي المتغطرس في مشيته, راح يندب حظه ومصيبته, ويقول( كيف كنا, وأي طريق نحن فيه الآن ؟ قالوا, أن الناس سيأتون للترحيب بنا 0 ولكن متى يكون ذلك؟ ) فرددت أنا عليه: ( في المستقبل, عندما تنزل رحمة الله بغزارة 0 سيأتي أناس أعظم بكثير من هذا الجندي المتعجرف, إلى ظل كلمة الله, ليقدموا الاحترام لهذا الدين ) 0 والآن أين ميرزا يحيى ليشاهد, ماذا فعلت قوة حضرة بهاء الله, وليشاهد, كم من الأمريكيين الذين لا يقيمون شأنا يذكرلأولئك الجنود العثمانيين, يقدمون ولاءهم لحضرة بهاء الله " 0 (10)
" وفى صامصون زاره كبير مفتشي الولاية الممتدة من بغداد إلى الاستانة يصحبه عدد من الباشاوات, وابدوا له غاية الاحترام والإجلال, فدعاهم إلى مائدته لتناول الغذاء , وكما تنبأ في لوح ملاح القدس, ركب سفينة تركية بعد سبعة أيام 0 وبعد ثلاثة أيام أخرى , في ظهر غرة ربيع الأول سنة 1280هـ (الموافق 16 أب أغسطس 1863م) نزل في ثغر الاستانة هو ومن معه من رفاق المنفى " 0 (11)
" استغرقت الرحلة إلى القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية العثمانية حوالي ثلاثة شهور كان معظم وقتها عاصفا, ومرت العديد من الأيام بدون طعام كاف , فكانت الرحلة شديدة على الأمهات والأطفال وخلال السفر كنا نشعر دائما أن هناك سيفا مسلطا فوق رؤوسنا "0
" ببلوغ حضرة بهاء الله الأستانة عاصمة الإمبراطورية العثمانية ومقر الخلافة الإسلامية ( ويكنيها المسلمون " قبة الإسلام " ويصفها حضرة بهاء الله بالبقعة التي استقر فيها " كرسي الظلم " ) يمكننا أن نقول أن أنكد فصل وأقساة بل أمجد فصل من القرن البهائي قد ابتدأ فعلا , نعم لقد ابتدأت فترة اختلطت فيها الامتحانات التي لم يسبق لها مثيل , والحرمان الذي يجل عن الوصف, بأنبل الانتصارات الروحية وأكرمها, وأوشكت فيها شمس حضرة بهاء الله أن تبلغ سمت الزوال "0 (12)
" وركب هو وأسرته عربتين خاصتين كانتا في انتظاره على مرسى الميناء وتوجه إلى دار شمسي بيك الموظف الذي انتدبته الحكومة ليرحب بضيوفها 0 وكان منزله مجاورا لمسجد " خرقه شريف " (13)
وكان هذا البيت مكوناً من طابقين وظلوا في هذا البيت لمدة شهر واحد انتقلوا بعد ذلك إلى بيت ويسى باشا القريب من مسجد السلطان محمد0 وكان منزلا أرحب وأوسع 0 مكونا من ثلاثة طوابق وقسمين داخلي وخارجي وحمام خاص وحديقة كبيرة 0 احتل حضرته الطابق الأول من القسم الداخلي وسكن حضرة عبد البهاء الطابق الأول من القسم الخارجي, أما الأحباء فسكنوا في الطابق الثاني 0 واحتوى الطابق الثالث على مخزن ومطبخ0