الفصل الثامن
نسائم الحرية فوق جبل الكرمل
نسائم الحرية فوق جبل الكرمل
بناء ضريح حضرة الأعلى على جبل الكرمل
" كان إطلاق سراح حضرة عبد البهاء المفاجئ الرائع بعد حبس دام أربعين سنة بمثابة الضربة القاضية على مطامع ناقضى الميثاق0 نعم كانت ضربة تشبة الضربة التي حطمت منذ عشر سنوات آمالهم في القضاء على سلطانه وخلعه من المقام الذي حباه به الله0 والان في غداة تحرره الظافر تنزل عليهم ضربة ثالثة موجعة كسابقتيها ولا تكاد تقل عنهما روعة وشدة0 ففي غضون بضعة اشهر من ذلك القرار التاريخي القاضي بإطلاق سراحه, وفى عين السنة التي شهدت سقوط السلطان عبد الحميد تمكن حضرة عبد البهاء بفضل القوة العلوية التي مكنته من حماية حقوقة الإلهية, واقامة دين والده في أمريكا الشمالية, والانتصار على عدوه السلطان, من إتمام عمل من أجَلّ الأعمال التي تمت في عهده , آلا وهو تحويل رفات حضرة الباب من مخبئها في طهران إلى جبل الكرمل "0 (1)
ويمكننا اعتبار بناء ضريح حضرة الأعلى على جبل الكرمل وانتقال صندوق العرش المطهر لحضرة الأعلى من إيران إلى حيفا من الفعاليات المهمة والتأسيسات المنيعة التي قام بها حضرة عبد البهاء في خضم هجوم البلايا والمصائب, وهمهمة ودمدمة أهل النقض والفتور والتي تحققت بها جميع نبوءات رسل القبل المذكورة في الكتب المقدسة عن بهاء جبل الكرمل والمناطق المحيطة به0
" ولقد صرح هو نفسه أكثر من مرة بأن تحويل تلك الرفات في أمان, وتشييد مقام مناسب يستقبلها ويضمها, وإيداعها التراب على يديه في مقرها الأخير هو غرض من الأغراض الثلاثة الأساسية التي أدرك منذ بداية رسالته أنه أعظم واجباته, والواقع أن هذا العمل جدير بأن يعدّ من أبرز حوادث القرن البهائي الأول " (2)
" كان محل استقرار الرمس الأطهر في قلب جبل الكرمل في ذلك المكان الذي أختاره حضرة بهاء الله في أواخر أيام حياته0 وفى نفس البقعة المباركة التي نصب فيها بهاء الله خباء له وتقدس ترابها بموطئ أقدامه عام 1870 م" (3)
حينما كان حضرته جالسا على الجبل قرب ذلك المكان وبحضور حضرة عبدالبهاء عين المكان وأمر بشراء تلك الأراضي وأوصى بذلك "ويصف شاهد عيان أنه ذات يوم بينما كان بهاء الله مواجها لجهة الشرق وحضرة عبد البهاء للغرب أصدر لسان العظمة توجيهاته لحضرة عبد البهاء بأن يرتب لنقل جثمان حضرة الباب من إيران إلى الأرض المقدسة ودفنه في مقام فخم البناء وسط أشجار السرو في الموقع الذي أشار إليه بيده المباركه0 وهكذا بدأت أول خطوة لتنفيذ هذا المشروع بواسطة حضرة بهاء الله نفسه"0 (4)
وبعد الصعود شرع حضرة عبد البهاء في شراء تلك الأراضي، من صاحبها " إلياس مدور" " رغم ثقل المشاكل التي سببها الناقضون والمنتسبون وأيضا حكام الدولة0
" فعندما علم الناقضون بنية حضرته على شراء قطعة الأرض تحركت في نفوسهم روح المعاندة الحقودة وأسرعوا إلى مالكها يقنعوه بعدم البيع, مؤكدين له ارتفاع قيمتها مستقبلا وخلال فتره بسيطة إلى عشرة أمثالها 0 كما حثوا الآخرين على كتابة الرسائل للحكومة بدعوى ملكيتهم لبقية أراضى جبل الكرمل0 ونتيجة لتلك المكائد, شغلت عملية شراء قطعة الأرض من وقت حضرة المولى أكثر من ستة شهور من العمل المتواصل0 كما أنها كانت مثل جزيرة وسط أراضى الآخرين, ولم يكن من طريق أو وسيلة للوصول اليها0 فأثقلت الهموم كاهل حضرته وقرر عدم متابعة الموضوع وتسليم أمره إلى الله0 وبمرور الوقت زاد الناقضون من نشاطهم خلال فترة صمته وفرحوا وهللوا لاعتقادهم بنجاح مقصدهم تماما " 0(5)
"ومن بين العقبات التي كان عليه في هذه الفترة العصيبة من عهده أن يواجهها ويتغلب عليها قبل أن ينفذ كل الخطة التي أفضى له بمعالمها حضرة بهاء الله 000 هي إنهاء المفاوضات المديدة مع صاحب الأرض التي أشار إليها حضرة بهاء الله لبناء المقام الأعلى , فقد كان صاحب الأرض متخوفا بدهائه فرفض مدة طويلة أن يبيعها وذلك بتأثير ناقضى العهد0 ومنها أن يصل إلى شئ معقول من الثمن الباهظ الذي طلب أول الأمر مقابل شقه طريقا يؤدى إلى تلك البقعة وهو طريق كان لابد منه لعملية البناء0 ومنها أن يجيب على الإعتراضات اللانهائية التي طفق يعترض بها رجال الحكومة من رفيعهم ووضيعهم وكان على حضرة عبد البهاء أن يبدد شكوكهم السريعة بالتأكيدات المتكررة والشروح المعادة0 ومنها أن يدبر الموقف الخطر الذي نتج عن اتهامات ميرزا محمد على الرهيبة , وخلطائه فيما يختص بطبيعة ذلك البناء والغاية منه "0 (6)
وتفضل حضرته بخصوص أوضاع تلك الأيام عندما كان يريد شراء بعض الأراضي كيف أنه في إحدى الليالي وجد نفسه مستغرقا في بحر الأحزان بحيث ضاقت السبل وانسدت الأبواب من جميع الجهات ولم يجد سبيلا سوى التمسك بذيل حضرة الكبرياء وأمضى طوال تلك الليلة بتلاوة دعاء لحضرة الأعلى, حصل على إطمئنان القلب من تلاوة تلك الأدعية وهدأ باله0 وفى اليوم الثاني وجد أن صاحب الأرض جاء بنفسه يعتذر ويبيع الأرض بالسعر المناسب0
تم بناء أول حجر عام 1899م وأخذ البناء تصميما هندسيا بحيث تبنى 9حجرات بجوار بعضها البعض وتم بناء 6 حجرات في أيام حضرته والثلاثة الأخرى أتمها حضرة ولي أمر الله شوقى افندى , لكن وصول مثل هذه الأنباء إلى مسامع الأعداء حدا بهم لتلفيق تهماً جديدة ضد حضرته 0 فكتبوا للبلاط العثماني متهمين إياه بالتخطيط لبناء قلعة حصينة على سفح جبل الكرمل, وأكدوا خطرها على سلامة الإمبراطورية 0
" فجاء فرمان الحكومة بوقف أعمال البناء فورا, ثم لحقه عدة أوامر مماثلة, فعرض حضرته القضية على لجنه حكومية للتحقيق في الموضوع 0 وجاء قرارها في النهاية بالسماح في إستكمال البناء0(7)
"وكثيرا ما سمعه أصحابه وهو يقول " رفعت كل حجر في ذلك البناء " وكل حجر في تلك الطريق بدموع لا نهاية لها وجهد لا حد له ووضعته في مكانه" (
على أن قصة انتقال العرش المطهر لحضرة الأعلى بعد استشهاده في ساحة تبريز تشكل جزءا هاما من تاريخ الأمر المبارك0وتبدأ القصة التي تعد من أعجب وأشجع قصص التاريخ الإلهي بعد واقعة إستشهاد حضرة الباب حيث كان جسد حضرته ملتصقا بجسد جناب ميرزا محمد علي الزنوزى الملقب بأنيس, ولم يكن من الممكن إنفصال الجسدين عن بعض ويذكر حضرة بهاء الله جل أسمه الأعلى هذه القصة في لوح مبارك حيث يتفضل:
" إنّا نذكر في هذا المقام محمدا قبل علي الذي أمتزج لحمه بلحم مولاه ودمه بدمه وجسده بجسده وعظمه بعظم ربه العزيز الوهاب نُشهد قلمي الأعلى بأنه فاز بما لا فاز به أحد قبله وورد عليه ما لا سمعت شبهه الآذان عليه بهائي وبهاء ملكوتي وجبروتي وأهل مدائن العدل والإنصاف " نص عربي
بعد الإستشهاد وفى مساء اليوم نفسه كانت جثتا الباب وصاحبه المختلطتان قد نقلتا من ساحة المعسكر حيث أخذ المأمورون الجسدين المباركين إلى حرف الخندق خارج باب المدينة0 قرر حاجى سليمان خان التبريزى بعد يومين بأخذ الأجساد المطهرة من ذلك المكان وفى منتصف الليل من اليوم الثاني بعد الإستشهاد إستطاع سليمان خان بالتعاون مع ميرزا مهدى " كلانتر المدينة " ورفاقه بأخذ الجسدين ولفه في عباءة وحفظه في مصنع أحد البابيين يُدعى حسين وبعد يومين وضعت الأجساد في صندوق خشبي وأنتقل إلى محل آمن, وبعث سليمان خان - وهو أحد فرسان الحرس الملكي سابقًا واعدم مع ضحايا سجن سياه چال الذين خلد التاريخ البهائي اسمائهم0 وعندما حان دور إعدامه حفر الجلادون في جسمه بالسكاكين الحادة عدة حفر ووضعوا في كل حفرة شمعة مضيئة.. وبهذا الشكل سحب في الشوارع متوجهًا نحو مصيره المحتوم.- إلى حضرة بهاء الله عن تفاصيل ما حدث وطبقا لأوامر حضرته تم انتقال الأمانة الإلهية إلى طهران.
فأخذ ميرزا موسى كليم وميرزا عبد الكريم قزويني تلك الأمانة وحفظوها في مقبرة أمام زاده حسن في مكان مخفي عن الأنظار بصورة لم يكن أحد يعلم مكانها سواهما الاثنان ثم أنتقل صندوق العرش المطهر إلى منزل حاجى سليمان خان ومن هناك إلى " أمام زاده معصوم " وظل الصندوق محله في الزاوية الشمالية من تلك البقعة, حتى سنة 1284هـ وفي هذا الوقت كان حضرة بهاء الله في أدرنه عندما وجه رسالة عاجلة أمر فيها أيادي أمر الله جناب ملا علي أكبر وجمال بروجردى أن يذهبا وينقلا الصندوق فورا إلى محل آخر, وتم نقله إلى مقام " حضرة عبد العظيم " ولكنهم لما لم يجدوا محلا آمناً وضعوه في مكان قريب من" عين علي " قرب حائط المسجد وظلوا يراقبون المكان فترة 0
لكن عندما أرادوا الرجوع إلى طهران ذهبوا إلى المكان ليطمئنوا عليها وجدوا الحائط منهاراً, فاضطربوا كثيرا فأخذو يبحثون بين الأنقاض حتى وجدوا الصندوق باق على حاله, وأخذوا الصندوق إلى منزل مير حسن وزير أحد المؤمنين, وبقي العرش المطهر هناك مدة 15 شهرا مستوراً عن الأنظار وبالتدريج علم الأحباء بوجود الصندوق وقصدوا المنزل للزيارة ، وشرح ملا علي أكبر ما وقع لحضرة بهاء الله وسأل ما العمل ؟ فعين حضرته جناب حاج شاه محمد منشادى الملقب بأمين البيان كمسئول عن المحافظة على الصندوق, فأخذه ونقله إلى " حرم إمام زاده " وظل حتى سنة 1301 هـ – 1885 م, حيث كلف ميرزا أسد الله أصفهاني بأن ينقل الصندوق إلى مكان آخر فأخذ الصندوق إلى منزله في البداية ثم إلى عدة محلات مثل منزل ميرزا حسين علي نور أصفهاني ثم إلى منزل آقا محمد كريم عطار0 وفى سنة 1316 هـ قام ميرزا أسد الله تنفيذا لأمر حضرة عبد البهاء بنقل الصندوق إلى حيفا0
فأخذ أسد الله ينتقل مع الصندوق - تحف به الأخطار الشديدة - من قم إلى أصفهان إلى نجف آباد إلى خوانسار إلى كرما نشاه إلى بغداد إلى دمشق إلى أن أوصله إلى بيروت بعد مشقات كثيرة, ولم يتحقق ذلك سوى بالأراده المقتدرة الإلهية, ومن هناك تم نقل الصندوق بواسطة السفينة إلى حيفا في تاريخ 19 رمضان 1316 هـ الموافق 31 يناير 1899 م وحتى هذا التاريخ كان قد مرت خمسون سنة قمرية على إستشهاد حضرته, وكان ورود صندوق عرش المبارك إلى أرض الأقدس سبب سرور وابتهاج حضرة عبد البهاء.
في البداية حُجِز الصندوق في إحدى حجرات البيت المبارك مستورا عن الأبصار ثم نقل إلى محل في جبل الكرمل وبعد بقاء عشر سنوات تحت مراقبة حضرة عبد البهاء تم إستقراره في المقام المقدس الأعلى الذي تم بناؤه.
" وفى تلك السنة التي بلغت فيه الوديعة الثمينة شواطئ الأرض المقدسة وَسُلمت إلى يدي حضرة عبد البهاء ركب هو والدكتور إبراهيم خير الله الذي شرفه بتلقيبه إياه " ببطرس البهاء" و "كولومبس الثاني " و " فاتح أمريكا" وإنطلقا إلى الموقع الذي باركه حضرة بهاء الله وإختاره على جبل الكرمل والذي أُشترى أخيرا وهناك وضع بيده الحجر الأساسي للبناء الذي بدأ تشييده بعد بضعة اشهر"0(9)
ومن جهة أخرى أمر حضرته آقا سيد مهدى المقيم في الهند بأن يعمل صندوقا من المرمر وصندوقا آخر من خشب الصندل والأبنوس ويزين صندوق المرمر بقطع من " يا بهاء الأبهى " و " يا على الأعلى " بخط الكاتب البهائي الشهير مشكين قلم " وهو هديه صدرت عن محبة البهائيين في رانجون وأرسلت بالباخرة إلى حيفا0
" عندما أكمل أحباء بورما مهمتهم, أحضروا عربتين لنقل شحنتهم إلى الشاطئ, وسحبوها خلال الطريق وهم يرتلون الأدعية والمناجاة 0 فجذبت روعة موكبهم العديد من الناس للانضمام إليهم 0 وبوصولهم إلى الميناء, وضعوا أمانتهم في أحد المساجد وعندما تساءل الحاضرون عن سبب فرحتهم 0 برز أحد الأحباء ليحكى لهم قصة حضرة الباب وطريقة استشهاده وقصة دفنه في جبل الكرمل 0 فانجذبت بذلك قلوب عدد من الموجودين وانضموا لخدمة الأمر المبارك في بورما"0(10)
وعلى الرغم من المشاكل والصعوبات الكثيرة إلا أنه بإرادة حضرة عبد البهاء المباركة أنهى بناء ست حجرات بضريح حضرة الأعلى. وأخيرا في السنة التي ثل فيها عرش خصمه السلطان وفى الوقت الذي إنعقد فيه المؤتمر البهائي الأول في شيكاغو لتشكيل هيئة مركزية دائمة لتشييد مشرق الأذكار إنتهى حضرة عبد البهاء من مهمته إنتهاءً ناجحا رغم مكائد الأعداء المستمرة من الداخل والخارج 0
" خرج حضرة عبد البهاء من السجن الأعظم في نيروز 1909 بعد أن أمضى فيه مدة أربعين سنة000 وكان 21 آذار ( مارس) 1909 ليس كغيرة من أعياد النيروز السابقة فبالإضافة إلى خروج حضرة عبد البهاء من سجنه الطويل0 التأم شمل الأحباء في حفل مهيب لم يسبق له مثيل وجرت المراسيم وقام حضرة عبد البهاء بدفن رفات الباب الشهيد في مثواه الأخير على جبل الكرمل "0(11)