احزان وافراح
صعود الغصن الأطهر
صعود الغصن الأطهر
كان حصيلة النفي المتعدد والمتتابع والعذاب وتراكم الشدائد قد بدا واضحاً على جسد آسيا هانم الهش الضعيف وزاد ضعفها وآلامها ندرة الطعام ووطأة الحر الخانق ومرض أفراد العائلة المباركة وتفشي الملاريا والدوسنتاريا بسبب رائحة السجن المقززة وتلوث جو عكاء.
" والى هذه الشدائد أضيفت مأساة مباغتة مريرة ألا وهى الموت المبكر لميرزا مهدى التقى النبيل, وهو في الثانية والعشرين من عمره وهو" الغصن الأطهر" أخو حضرة عبد البهاء الأصغر, وأحد كتاب وحي حضرة بهاء الله ورفيقه في منفاه منذ أن جئ به طفلا من طهران إلى بغداد ليرافق والده بعد عودته من السليمانية " 0 (1)
وقعت الحادثة الفاجعة يوم 21 يونيو 1870م على أرض السجن وشهدت الأم المظلومة المكلومة بعينها وفاة إبنها الغصن الأطهر ميرزا مهدي0 والذي كان الكل يشهد له برقته وتواضعه ووداعته. كانت الأوامر المتشددة التي أصدرها السلطان عبد الحميد والصدر الأعظم تقضي بمنع حضرة بهاء الله أو أي فرد من جماعة المنفيين من مغادرة سجن القلعة داخل عكاء أو الاتصال بأي من الزائرين من خارجها0
" أما الزوار القلائل الذين استطاعوا الوصول إلى أبواب السجن رغم الخطر الشديد, فقد قنعوا بالنظرة العجلى إلى وجه السجين وهم وقوف وراء الخندق الثاني متوجهين إلى نافذته, علما بان بعضهم قطع الطريق كله من إيران سيرا على الأقدام 0 أما القلائل الذين افلحوا في دخول المدينة فقد أرغموا, والحزن يعصر قلوبهم, على أن يعودوا من حيث أتوا حتى دون أن يفوزوا بلمحة واحدة من وجهه وكان أول من فاز منهم بالتشرف بمحضرة الحاج أبو الحسن الأردكانى المتفاني الملقب " بالأمين الإلهي" فاز بذلك في الحمام العام حيث استقر الرأي على أن يرى حضرة بهاء الله دون أن يقترب منه أو يبدى أية إشارة تدل على انه يعرفه0
أما الزائر الثاني فهو الأستاذ إسماعيل الكاشى الذي جاء من الموصل ووقف على الحافة الأخرى من الخندق 0 وظل يحدق ساعات طوالا في سعادة ونشوة إلى نافذة محبوبه 0 ولكن لم يستطع في النهاية أن يميز وجهه لضعف بصرة, واضطر إلى أن يعود إلى الكهف الذي احتمى فيه على جبل الكرمل 0وقد رقت له العائلة المباركة وبكت إشفاقا عليه وهم يرون خيبة آماله من بعيد "0 (2)
وكتب حضرة بهاء الله يقول " منذ إنشاء هذا العالم إلى يومنا هذا لم ير أحد مثل هذه القسوة أو يسمع بها " وفى موضع أخر أشار إلى نفسه بقوله "لقد امتحن معظم حياته امتحانات قاسية بين براثن الاعداء0 إلا أن بلاياه اليوم بلغت حدها الأقصى في هذا السجن الذي زج به فيه الظالمون " (3)
" كان حضرة بهاء الله يمضي أوقاته في زنزانته بكتابة الألواح أو إملائها على أخي الشاب الغصن الأطهر " ميرزا مهدي " الذي كان كاتبا سريعا, ثم يأخذها حضرة عبد البهاء ليستنسخها ويرسلها إلى الخارج بواسطة الطبيب0 وكان من المعتاد أداء هذه الأعمال خلال الأمسيات, خلال نهاية السنة الثانية في القلعة0 وذلك اليوم جاء الغصن الأطهر كعادته للكتابة عند والده وطلب من حضرة بهاء الله أن يقبل روحة ونفسه فداء لخدمته وفداء للذين حرموا التشرف بمحضر محبوبهم0 وبما أن صحة آخي لم تكن على ما يرام, فقد صرفه أبي 0 وأمره حضرة بهاء الله بالصعود إلى سطح السجن حيث اعتاد التمشي في (المكان الوحيد الذي كنا نستنشق فيه الهواء الطلق وأداء بعض الرياضات) وعندما صعد إلى سطح الثكنات في عتمة الضوء وانشغل بتلاوة قصيدة " عز ورقائية " عن كل من حولـه هوى في الفتحة غير المحمية من خلال فتحة السلم إلى غرفة الجلوس الخالية0 وسقط على قفص خشبي نفذ من بين أضلاعه، لكننا بسماع صرخته أسرعنا إليه ووجدناه ممددا على الأرض والدم ينزف من فمه0 ركضت والدته الضعيفة الجسد لتضمه وتبللت ثيابها بدم أبنها وتنهدت بألم وفقدت وعيها وأغمي عليها ومع كل الضعف والألم المبرح الذي أصاب الغصن الأطهر إلا إنه لف بذراعيه حول أمه محتضنها0"وبسماع حضرة بهاء الله, الضوضاء فتح باب غرفته ونظر إلى الخارج وبمشاهدة ولده على تلك الحالة, عاد ليدخل غرفته وتفضل (ذهب مهدي)" (4)
" نقل الغصن الأطهر إلى سريره وعندما شاهد الغصن الأعظم الجمال المبارك قام ليرمي بنفسه علي قدميه متوسلاً بعين دامعة أن يهب أخاه الشفاء فرد الجمال المبارك عليه: " يا غصن أعظم أترك شأنه إلى ربه ليفعل ما يشاء كما يشاء "
أنحنى الغصن الأعظم بخضوع وأمر الآخرين للتسليم لمشيئة الله. ثم قامت آسيا خانم الأم المكلومة المحزونة وركعت عند أقدام حضرة بهاء الله وقالت " يا ألهي، أتوسل إليك لتقبل مني هذه الفدية " أنعم عليها حضرته بفضله الكريم ونصحها أن تكون صابرة وردت آسيا هانم ( كل ما تشاؤه هو مراد قلبي ومحبوبى....) " (5)
* وتذكر حضرة الورقة العليا " إن موت هذا الشاب المحبوب جدا, كسر قلب والدتي فخشينا عليها, وعندما علم الجمال المبارك بحالتها, ذهب إليها وتفضل: " لقد اخذ الله ولدك, لأجل إطلاق أحبائة 0 أن حياته كانت فداء, وعليك أن تفرحي أن لديك ولدا عزيزا جدا قدم حياته في سبيل أمر الله " عند سماع والدتي هذه الكلمات تماسكت وركعت وقبلت يد حضرة بهاء الله , وشكرته لما تفضل به 0 وبعد ذلك لم نشاهدها تبكي أبدا "0 (6)
أمر حضرة بهاء الله الجميع بأن يتركوه مع ابنه الميرزا مهدي وفى تلك اللحظة جرى حديث بين حضرته وابنه وفيها سئل ابنه المحتضر إذا كانت أمنيته أن يحيا ثم أكد له إذا كانت هذه أمنيته فأن الله سيمنحه الشفاء والصحة والعافية ‘ ولكن الغصن الأطهر أستعطف وترجى الجمال المبارك أن يقبل حياته كفدية ليكون سبباً في السماح للزائرين المتشوقين لزيارته ويكونوا في محضره وتفتح أبواب السجن ‘ قبل حضرة بهاء الله تضحيته ووعده بتحقيق أمنيته. ثم أرسل خلف الطبيب الذي قال, انه لا أمل هناك 0 وأفضى ذلك الحادث به إلى الموت بعد اثنين وعشرين ساعة اخرى0
" وبعد أن غسل في محضر حضرة بهاء الله جثمان" من خلق من نور البهاء" الذي شهد القلم الأعلى لوداعته, وذكر " أسرار" صعوده, حمله الحراس وأودعوه مقره الأخير خارج أسوار المدينة في بقعة تجاور مقام النبي صالح ومن هنالك نقلت رفاته ورفات والدته الزهراء, بعد سبعين سنة, إلى سفوح الكرمل بجوار رمس أخته, وتحت ظلال مقام حضرة الباب الاعلى (7)
وفى هذا الكور البديع شرب حضرة غصن الله الأطهر كأس الشهادة بأمر جمال القدم والاسم الأعظم حتى يفتح باب اللقاء عن وجه أهل البهاء ويصل العالم والعالمين إلى حياة جديدة وتتحقق الوحدة الأصليــة للجامعــة البشرية , وتعلن وحدة العالم الإنساني ويصبح العالم الأدنى مرآة للملكوت الأبهى تعالى تعالى مقامه الأطهر الأعز الأرفع البديع 0
* وتذكر حضرة الورقة العليا " وعند وفاة آخي وإفصاحه عن رغبته , حدث أن سمعه أحد الجنود الحاضرين في تلك الأثناء , فنقلها بدوره إلى الضابط المسؤول , الذي نقلها إلى الحاكم , ومن المحتمل انه تأثر بهذه الرغبة فوافق الحاكم على تنفيذها00 " (
" وفى مناجاة ملحوظة المغزى رفيعة المعنى خلد حضرة بهاء الله ذكرى ولده , ورفع موته إلى منزلة الفداء العظيم الذي فدا ولد إبراهيم , والى مقام صلب المسيح , واستشهاد الأمام الحسين 0 وفى هذه المناجاة نقرأ قوله :
" أي رب فديت ما أعطيتني لحياة العباد واتحاد من في البلاد000 " ونقرأ هذه الكلمات الإلهية الموجهة إلى ولده الشهيد " انك أنت وديعة الله وكنزه في هذه الديار0 سوف يظهر الله بك ما أراد " 0 (9)
* ومن ترجمة توقيع حضرة ولي أمر الله شوقي رباني الخاص بالرمسين المطهرين (1940) : - "الغصن الغض النضر وهذه الورقة المنبتة من سدرة الوفا وأهل حرم الكبرياء سارا في ركاب الجمال الأبهى إلى حصن عكا واستقرا في منفى القاتلين مدة سنتين فكان الغصن الجليل يذوق حنظل الجفاء كأنه العسل المصفى ويئن وينوح من سد باب اللقاء على وجه أهل البهاء وكان يقوم في الليل والنهار على خدمة الأب السماوي ويكتب آيات الوحي الإلهي فأغمض عينه عن العالم والعالمين واستغرق في بحر بيناته وأنقطع عن كيانه وتشبث بجماله متمنيا بكليته الفداء انجذابا إلى ملكوته وفدا نفسه للجمال الأبهى بمظلومية لم تر عين الإبداع شبهها ووضع على رأسه تاج الشهادة الكبرى وصدر بافتخاره من القلم الأعلى هذا البيان المبارك الأحلى :
" هذا حين فيه يغسلون الابن أمام الوجه بعد الذي فديناه في السجن الأعظم بذلك ارتفع نحيب البكاء من أهل سرادق الأبهى ونَوَّح الذي حبسوا مع الغلام في سبيل الله مالك يوم الميعاد "
وكذلك يقول :" أنت المظلوم وجمال القيوم قد حملت في أيامك ما ناحت به الأشياء وتزلزلت الأركان طوبى لمن يذكرك ويتقرب بك إلى الله فالق الإصباح " وأيضا يقول : " يا ميم المجد أنت ارتقيت بروح وريحان ومحبوك فبالأحزان كذلك قضى الرحمن أنه لهو المهيمن القيوم ... ... أن يا هاء الهوية قصدت معارج القدس وتركت الدنيا في سبيل ربك إنك أنت الذي ارتقيت إلى مقام محمود وأشهد أنك رجعت مظلوما إلى مقرك طوبى لك وللذين تمسكوا بذلك الممدود, أن يا دال الأبدية قد تشرفت بك تلك الأرض وما حولها إنك أنت وديعة الله وكنزه في هذه الديار سوف يظهر الله بك ما أراد أنه لهو الحق علام الغيوب. باستقرارك على الأرض تزلزلت في نفسها شوقا للقائك كذلك قضي الأمر ولكن الناس لا يفقهون " 0
"أن يا ياء القدمية طوبى لك بما أنفقت روحك في السجن الأعظم بعد الذي كنت بين أيادي الذين كفروا بالله في اليوم الموعود. أنا لو نذكر أسرار صعودك ليتنبهن أهل الرقود ويشتعلن الوجود بنار ذكر اسمي العزيز الودود"
وكذلك في إحدى المناجاة الصادرة من قلم نير الآفاق روحي لرشحات قلمه الأعز فداء نزل هذا البيان الأفخم :
" سبحانك اللهم ياآلهى تراني بين أيادي الأعداء والابن محمرا بدمه أمام وجهك يا من بيده ملكوت الأسماء أي رب فديت ما أعطيتني لحياة العالم واتحاد من في البلاد "
وفى تلك الليلة حدث زلزال هز مدينة عكا سجله نبيل في تاريخه وأكده حضرة بهاء الله في نفس اللوح متفضلا :-
" باستقرارك على الأرض تزلزلت في نفسها شوقا للقائك كذلك قضى الأمر ولكن الناس لا يفقهون ".
وبالفعل وبعد فترة قصيرة من استشهاد الغصن الأطهر تحسنت أوضاع العائلة المباركة إذ إن الحكومة احتاجت أن تستخدم المعسكر ( القشلة العسكرية ) لأغراض أخرى فسكن حضرته والعائلة المباركة في عدة منازل قبل أن ينزلوا في" بيت عودة خمار" وهو بيت مريح مكون من ثلاث غرف وحوش وسمح للعائلة وللأصحاب بدخول المدينة ودخول الراغبين بالزيارة إلا انه طلب من حضرة بهاء الله عدم مغادرة البيت0